لقد فطن البعث (أن الاستعمار ليس احتلالا عسكريا فحسب ينتهي بالجلاء والاستقلال، وإنما هو فوق ذلك كله، استقلال اقتصادي وربط مصالح البلاد بمصالحه الذاتية وامتيازاته واحتكاراته، فالاستعمار لا يعتمد في تنفيذ أغراضه على قواه وحدها، إن له حلفاء من الطائفية والإقطاع والعشائرية والعنصرية والرأسمالية المرتبطة به). فما أشبه اليوم بالبارحة بعد أن تأكدت هذه الصورة التي رُسمت في الثلاثينات عمليا، اليوم في أكثر من قطر عربي وبشكل خاص بعد أن تبلورت بمفرداتها "الخبيثة" على أرض العراق المحتل والذي تكالبت عليه كل قوى التخلف والتجزئة والردة، لتترجم بكل وضوح وخسة ولؤم أهداف ومصالح الاستعمار الأمريكي والاحتلال الصهيوفارسي، بكل وضوح من شماله إلى جنوبه، حيث تداخلت أهداف الاستعمار والاحتلال الفارسي والإستراتيجية الصهيونية بصورة جلية مؤكدة "وحدتها المعقدة والمتناقضة في حد ذاتها" في مجال القوى التي وجه البعث هجومه عليها عبر رؤيته العامة المؤكدة على أهمية "الكفاح الشعبي" وتطوره، وذلك بعد أن أدرك منذ وقت مبكر بحس وطني قومي إنساني "جذرية الصراع ومستوياته المختلفة معتمدا في تحليله وفهمه للعلاقة الجدلية بين الفكر والتنظيم الذي يعنيه، والحزب الذي يسعى في تبشيره عبر المسيرة التنظيمية إلى محطة تأسيسه"، مؤكدا على ما شدد عليه القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق "إما أن نأتي بشيء مبدع خطير يقلب حياة العرب من الذل إلى المجد ومن الانحطاط إلى الرقي، وإما أن تفشل محاولتنا فشلاً تاما. لن نعرف الحل الوسط، وقديما قلنا في أكثر من مناسبة أن التطور يعني التأخر، وأننا لا نستطيع أن نعتنق النظرة النسبية"... مضيفا "إننا نشعر بأن مجتمعنا العربي بحاجة إلى أن يغالب نفسه ويناضل نفسه، بحاجة إلى بذل جهد ومشقة كبيرة حتى يسترد ذاته الحقيقية، حتى يصل بالجهد والمشقة إلى أصالته، حتى يتحرر من الزيف الذي أصابه. ولا يكون التحرر سهلاً ولا بدون ثمن..... إن الآفات التي يشكو منها مجتمعنا ليست بالآفات السهلة، فالفكر مقيد مستعبد فقير هزيل مقلد، والشخصية سطحية ضعيفة الثقة بنفسها، لا تقوى على الاستقلال ومجابهة الأمور بصراحة، والروح فقيرة وناضبة، آفاقها محدودة وجوها هابط منخفض."
إذن كان الهدف من إنشاء حزب البعث ليس هدفا شكلياً وإنما كان الهدف أن يُوجد حزب أمة يقود ثورة قومية تعيد للأمة ثقتها بنفسها ووجودها في حاضرها ومستقبلها المعبر عن قيام مجتمع ديمقراطي موحد، وبقيام "تنظيم" موحد في بنيته "الاجتماعية" المستندة إلى نظرية ثورية تحقق أهداف البعث في الوحدة والحرية والاشتراكية، عبر نضال عنيد وفق إستراتيجية موحدة، تتفاعل معها "الجبهة الاجتماعية" و"الجبهة السياسية" كتعبير عملي عن طموح وأهداف الأمة العربية... الأهداف التي أكد عليها القائد المؤسس في باكورة أفكاره والتي برزت إلى حيز الواقع عام 1935م إذ قال: "إن صفحة الضعفاء والنفعيين والجبناء يجب أن تُطوى، وتحل محلها، صفحة جديدة يخطها الذين يجابهون المعضلات العامة، ببرود العقل ولهيب الإيمان، ويجاهرون بأفكارهم ولو وقف ضدهم أهل الأرض جميعا"... مضيفا: "لهم صدق الأطفال وصراحتهم وحياتهم، لا فرق بين باطنها وظاهرها، قساة على أنفسهم قساة على غيرهم، لأن غايتهم الحقيقة لا أنفسهم، وإذا تبينوا الحق في مكان أنكر من أجله الابن أباه، وهجر الصديق صديقه".
لقد دشن الحزب بداية مسيرته السياسية شبه "المنظمة" مع بداية الأربعينات إذ يقول الأستاذ شبلي العيسمي: "في مطلع الأربعينات لم يكن الحزب الوليد، سوى أفراد قلائل يسهمون في التظاهرات والمناسبات الوطنية، مع القوى السياسية العامة في القطر السوري ضد السلطات الفرنسية التي كانت تبذل قصارى جهدها، للإبقاء على كامل سيطرتها في سوريا ولبنان، برغم هزيمة فرنسا أمام ألمانيا"... ويضيف: "مع بداية عام 1941م أصدر الحزب، بل الحزبيون، بيانا سياسياَ باسم "حركة الإحياء العربي"، استنكروا فيه تراجع شكري القوتلي، أبرز قادة الكتلة الوطنية، وذلك بإنهائه إضرابا شعبيا، دام شهرا كاملا في المدن السورية احتجاجا على سياسة التضييق السياسي والاقتصادي التي اتبعتها السلطات الفرنسية وأدت إلى انخفاض الليرة السورية، و شحَّة المواد التموينية".
لقد أراد حزب البعث من خلال هذا البيان "أن يطرح نفسه على الرأي العام وأن يعبر عن أسلوبه الجديد في فهم العمل السياسي، وهو الصلابة، والصمود، وعدم مهادنة الاستعمار، والتراجع أمامه"، مواصلا نضاله على الصعيد الوطني مطالبا بإجراء انتخابات حرة، وإلغاء الرقابة على الصحف، موسعا موقفه المعارض مندداً بموقف الطبقة الحاكمة المنتدبة من قبل الفرنسيين، دون أن يُغفِل امتداداته القومية، متفاعلاً مع "ثورة أيار في العراق"، داعياً إلى تشكيل "حركة نصرة العراق" والتحريض والدفع "إلى التطوع والمشاركة الفعلية فيها". لقد كان هم الحزب وقيادته المتمثلة بالأستاذين عفلق والبيطار توسيع دائرة الوعي الوطني بأبعاده القومية وتوحيد كل القوى الوطنية في تلك المرحلة لمواجهة الظروف الدقيقة التي تعيشها سوريا والعراق ولبنان وفلسطين، وفي نفس الوقت الذي كان البعث يواصل نضاله المبدئي الوطني والقومي كان دقيقاً بتوضيح كل تحركاتهما (تحركات الأستاذين عفلق والبيطار) بهدف ترسيخ الوعي لدى البعثيين والاطمئنان، مؤكدين أن التحالفات التي تقتضيها المصلحة الوطنية في ظرف زمني محدد لا يمكن أن تخرج عن مبدئية البعث ولن تكون "إلا على أساس الاحتفاظ باستقلال شخصية الشباب القومي، الذي يمثلانه. وإن المطاليب الوطنية هي الحد الأدنى للمطاليب القومية". إن هذا الموقف كما يشير الأستاذ شبلي العيسمي "لن تكن انعطافا ومنطلقا جديدا في مسيرته، فإن فيها سلوكا لأساليب جديدة، في النضال والعمل السياسي، لم تكن مألوفة لدى البعثيين الأوائل، لأنهم كانوا، قبل ذلك التاريخ، مشبعين بفكرة المعارضة العنيدة، للفئات الحاكمة وللأوضاع السياسية القائمة من دون أية مهادنة أو تساهل، باعتبار أن "طريقهم طويلة" وإن "جيلهم سيبقى زمنا طويلا في دور النضال، وإنهم يحملون رسالة لا سياسة". هذا التعليق يأتي بعد تصريح للأستاذين عفلق والبيطار يشيد بإخلاص القوتلي واستقامته ونزاهته بعد موقفه الصريح والواضح ضد الفرنسيين وتفاعله مع الحركة الوطنية المتصدية للاحتلال ومشاريعه. فكان هذا الموقف مدخلا لتوضيح وإقرار المنطلقات التالية في العمل السياسي كما يقول الأستاذ شبلي العيسمي، وهي:
1- إن المثالية التي يجب أن يتميز بها البعثيون، يجب أن لا تكون خيالية، تتجاهل الواقع، بل عملية تدخل الواقع لتسيره وتغيره، وهكذا بدأ بوضوح يبرز أسلوب التكتيك والمرونة والمسايرة لمتطلبات الظروف الواقعية.
2- إن المشاركة بالانتخابات النيابية، لا تتناقض مع العقيدة والتشدد في المبادئ، بل إنها وسيلة فعالة من وسائل النضال لتحقيق أهداف البعث.
3- جواز المهادنة لبعض القوى التي يحاربها الحزب، بل والدخول معها في جبهة واحدة، إذا كانت الظروف تستوجب ذلك. وقد أخذ الحزب فيما بعد، يطبق هذا المبدأ كلما استدعته الحاجة.
4- إن عوامل التأثير المتبادل، بين القيادة والقاعدة في الحزب، ازدادت قوة ووضوحا، بعد هذا التصريح.
هكذا تمكن الحزب قبل مؤتمره التأسيسي أن يوسع احتكاكه ونشاطه بين الجماهير، وطرح أفكاره وأهدافه ومبادئه على أوسع نطاق، وقد أتى بيان الأستاذ ميشيل عفلق الانتخابي عام 1943م معبراً عن موقفه وأهدافه بعيداً عن بهرجة الحملات الانتخابية، والسبل التقليدية المتبعة بحثا عن الفوز الظرفي، مؤكدا "بأننا لن ندخل الحكم عاجلا، وفي صف النضال سنبقى طويلاً" ويقول الأستاذ شبلي العيسمي "إنما كان بيانا، يوضح الأهداف السياسية للحزب، والأساليب الجديدة التي يريد السير على أساسها. وهذه المناسبة كانت من أبرز المناسبات التي تحرك فيها الحزب لطرح نفسه، وشرح مبادئه على الصعيد الشعبي. ومن قراءتنا لهذا البيان نجد من حيث الأهداف والمبادئ ما يلي:
1- التوكيد بشيء من المثالية، على الفكرة القومية الحية، الممثلة للروح العربية والبعيدة عن اللفظية والاصطناع.
2- التوكيد على الشخصية العربية، وروح الأمة وماضيها، وعلى وجوب حمايتها من غزو الثقافات والفلسفات الغربية والتي تطمس شخصيتها وتعرقل وحدتها.
3- أن لا تبقى الثقافة مجردة، بل وسيلة لتقويم الأخلاق وتنشئة المناضلين.
4- شجب الطائفية والإقليمية و النعرات الضيقة المحلية.
5- شجب الشوعية الممثلة للمادية، والتقدم المصطنع.
6- محاولة التوفيق والمصالحة بين القومية والدين أو بين العروبة والإسلام.
7- التوكيد على أهمية الحرية وضرورتها، من أجل الانبعاث والتقدم ولأنها جوهر العروبة، ولأن الأمة الحرة تتكون من أفراد أحرار.
8- الاهتمام بوحدة الأقطار العربية على أساس الفكرة التي يمثلها الشعار "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"...
أما من حيث طبيعة العمل وأسلوبه، فنجد ما يلي:
1- نبذ الأسلوب الميكافيلي السائد بين السياسيين، وتقرير الأسلوب الأخلاقي في العمل السياسي، برفضه منطق "الغاية تبرر الواسطة".
2- يقرر أن الفساد عام وشامل، وأن الثقة مفقودة بالسياسة السائدة الفاسدة، المفتقرة إلى التنظيم والعقيدة، وإن الآلام عميقة، والأمراض مستفحلة، لا تنفع معها حيل السياسة، وبراعة السياسيين، بل تتطلب جيلا عربيا جديدا واعيا منظما مناضلا مؤمنا برسالة أمته.
3- يقرر التضحية بالفرص العارضة، وبالنجاح السريع في سبيل المستقبل المضمون، ويؤكد ضرورة العمل بالنَفَس الطويل. فيرى أن المهمة "شق الطريق لا تعبيدها، رفع الأشواك لا زرع الرياحين، غرس البذور الخالدة، لا قطف الثمار اليانعة ومن ثم يقرر عدم الاستعجال في الوصول إلى الحكم بل البقاء طويلا في صف النضال".
وبالرغم من التعقيدات والمشاكل التي تعرض لها البعث بعد الانتخابات النيابية، فإن الحزب صعَّد من تحركه الفكري ليس على صعيد الساحة السورية وإنما على صعيد الوطن العربي الكبير منطلقا من التركيز على قضية فلسطين التي اعتبرها قضية مركزية في نضاله، وخاض معركة تحريضية واسعة لتشكيل فرق الجهاد للدفاع عن حرية البلاد العربية كلها واستقلالها، متصدياً لكافة المواقف التي أٌقرت بفتح فلسطين للهجرة اليهودية وتصريحات روزفلت المؤيد فيه هجرة اليهود إلى فلسطين، وفي نفس الوقت وجه الحزب انتقاداته المكثفة للأنظمة العربية التي كانت آنذاك تتربع كراسي الحكم تحت رعاية وحماية القوى الأجنبية، وبادر إلى تشكيل مجاميع للكفاح المسلح كي تشارك في حرب فلسطين عام 1948م، وكان قراره:"بتجنيد جميع أعضائه للاشتراك في القتال والمجهود الحربي، وإرسال المتطوعين المقاتلين إلى فلسطين بقيادة لجنة الحزب التنفيذية وعلى رأسها الأستاذ ميشيل عفلق، كما استمر في إصدار البيانات وتحريك التظاهرات الشعبية، لفضح المواقف المتخاذلة للحكام ودفعهم باتجاه التعبئة الجديدة، وخوض المعركة بجد وصدق".
لقد كان البعث في موقفه هذا منطلقا من قناعته أن "القضايا العربية ككل لا يتجزأ"، وأن "مصلحة الأقطار العربية واحدة"، داعيا إلى تشكيل "جامعة عربية شعبية"، لا تخضع للسياسة الأجنبية والإقليمية "ممثلي الحكومات" وأنانيتهم الضيقة.
لقد كان هذا الاستعراض ضروريا يوصلنا إلى التأمل لمعرفة أهداف المؤتمر التأسيسي المنعقد في 4-7 نيسان 1947م، ويمكّننا من قراءة صحيحة لقراراته التي شكلت مرتكزاً لانتشاره التنظيمي في مختلف الأقطار العربية واتساع ساحته الفكرية والسياسية.
المراجع:
في سبيل البعث- الجزء الأول - الكتابات السياسية- ميشيل عفلق.
حزب البعث العربي الاشتراكي-مرحلة الأربعينيات التأسيسية 1940-1949م- شبلي العيسمي.
البعث والوطن العربي- الدكتور قاسم سلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق