قال تعالى

قال سبحانه و تعالى
((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدًمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنً كثيراً منهم فاسقون))
صدق الله العظيم

الجمعة، 14 سبتمبر 2012

نضال البعث في اليمن: لمحات موجزة من تاريخ البعث (11)

لمحات موجزة من تاريخ البعث
 
الإحياء نت
الدكتور قاسم سلام 
 
  
الحلقة الحادية عشر
 
حزب الشعب الاشتراكي
بهذه الحلقة نتناول نشأة حزب الشعب الاشتراكي، ومواقفه النضالية والسياسية وموقفه من عملية الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني، حتى يعرف القارئ إيجابيات وسلبيات هذا أو ذاك من أطراف العمل السياسي قبل بدء عملية الكفاح المسلح وأثنائها.
لقد كثر النقد وبالغ البعض حتى الاتهام وإصدار الأحكام العشوائية أحيانا وغير الموضوعية أحيانا أخرى ضد حزب الشعب الاشتراكي دون ملامسة الظروف التي كانت تحكم مساره، والعلاقات الوطنية والعربية التي رافقت خطه السياسي وطروحاته في تلك المرحلة، وقد توسعت ساحة اللغط السياسي والجدل حول إنشائه، فقد كانت معظم الاتهامات المركزة ضده تنطلق من زاوية سياسية مطلقة، إن لم نقل أنها كانت اتهامات تقع ضمن إطار المماحكات السياسية والتنافس الحزبي ضيق الأفق والمتعصب والبعيد عن الموضوعية والواقعية وخاصة تلك التي وصفته بأنه "رهان استعماري بريطاني"، وقد أنصفه الأستاذ قادري أحمد حيدر حين قال: "وهو في تقديرنا حكم أو استنتاج لا صله له بالقراءة الموضوعية التاريخية، قدر تعلقه بنظرية وفكر المؤامرة، حكم واستنتاج لا علاقة له بالواقع، ولا بالتحليل العلمي، ولا بالنقد الموضوعي، وهو عمليا أسهل الطرق لإقصاء وإلغاء الآخر، تجسيد وتعبير عن ثقافة الإقصاء المتبادلة بين أطراف الحياة السياسية اليمنية في ذلك الحين، وهو حكم سياسي أيديولوجي، فيه من رد الفعل وبؤس المزاج السياسي العصبوي أكثر مما فيه من العقل، ومن القراءة الموضوعية النقدية العقلانية التاريخية، وهذا القول ليس فيه أي ذرة من الدفاع المجاني عن حزب الشعب الاشتراكي، ولكنها دعوة لقراءة موضوعية نقدية عقلانية تاريخية. دعوة لقراءة موضوعية لحقائق وقائع السياسة، والتاريخ، كما هي، بعيدا عن فائض الذات التي تطغى على واقعية الموضوع" (1).
العمال والطلاب يواجهون قوات الاحتلال
لقد أتى حزب الشعب الاشتراكي في سياق نضالي مرتبطا بنشأة ونمو وتطور الحركة العمالية ونضالها المتنوع والذي أخذ كل الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، في مواجهة الاحتلال، منطلقا في ذلك من تفاعل أعضائه وقياداته المؤسسة, داخل الساحة وارتباط حركتهم ومواقفهم السياسية والفكرية بامتداداتها الوطنية والقومية، وعلاقتها بطبيعة المرحلة التاريخية، التي كان يعيشها شعب اليمن في ظل نظامين كهنوتي في الشمال، واستعماري في الجنوب، وطبيعة الظروف المحيطة بالشطرين..... ويكفي أن نتتبع البدايات وصولا إلى نشأة حزب الشعب الاشتراكي وأن نتعرف على نوعية رجال التجربة منذ قيام المؤتمر العمالي في 3 مارس 1956م، حيث أتت لحظة الإعلان، إعلان التأسيس، بعد موجات من المواجهات والإضرابات والتظاهرات التي استغرقت أشهر بكاملها وسقط فيها العديد من الشهداء العمال في مدينة البريقة، ثم تلا ذلك مواجهات غاضبة في ميدان مدينة التواهي أمام مركز (البوليس)، مواجهة بين العمال وقوات الاحتلال البريطاني، إذ أصر العمال على إطلاق سراح زملائهم المعتقلين، وتم اقتحام مركز (البوليس) من الباب الخلفي من قبل العمال والطلاب، وتم الاشتباك بالأيدي مع الجنود ثم استخدمت القوارير الزجاجية الفارغة والمليئة بالبيبسي كولا، بعد أن اقتحم الطلبة ,محلات المشروبات الباردة، المواجهة لقسم (البوليس) في الجهة الخلفية للرد على إطلاق النار من قبل نجدة عسكرية أطلقت النار على العمال والطلاب، فاستشهد منهم سبعة في شارع رقم (2)، و من بينهم الطالب الشهيد قاسم هلال الذي كان بجوار الرفيق قاسم سلام كما جرح الكثيرون في البوابة الرئيسة للقسم شارع رقم (1) في تلك المظاهرة، وقد توالت الإضرابات والمواجهات بعد المواجهة التي تمت في نهاية النصف الأول من عام 1957م بعد أن شعر العمال أن المعركة معركتهم وأن الأحزاب والتنظيمات السياسية في تلك المرحلة لم تكن كما يبدو مهيأة لمواجهة الحكومة الاستعمارية، فاتسعت ساحة المواجهة، إذ انضم التجار اليمنيون الذين كانوا تحت رحمة الشركات الأجنبية المتحكمة بعجلة الاقتصاد واحتكار السوق والبنوك، فكان ذلك الموقف رافدا جديدا عزز من حركة النقابات العمالية التي تصدت للمواجهة، وأتت صدامات أكتوبر 1958م التي سقط فيها عشرات الشهداء من بين العمال واعتقل 560 عاملا يمنيا من أبناء الشمال والجنوب، وسجن على إثرها الرفاق: عبده خليل سليمان، محمد سالم علي وإدريس حنبلة، وبالرغم من تلك الضغوط البريطانية استمر العمال في مواقفهم النضالية غير هيابين أو مترددين، فاضطرت حكومة الاستعمار إلى إصدار "قانون التحكيم الإجباري" الذي يحرم الإضرابات ويصر على حصول العمال على تصريح من المحكمة الصناعية، ثم واصلت الحكومة البريطانية عملية معاقبة 60 عاملا من عمال الحكومة، وقدمت الرفيق علي حسين قاضي رئيس نقابة الحكومة والحكومات المحلية وكل من المناضلين صالح عرجي سكرتير نقابة الميناء، وأحمد سالم حميدان عضو إداري في نفس النقابة،للمحاكمة, وانتشر الجنود البريطانيون في الشوارع والجولات وسطوح منازل الهندوس ومباني الحكومة ومستودعات "النافي" واجتمع المجلس التشريعي- الحكومة- تحت حراسة مشددة ولم يؤيد قانون "البيومي" إلا البيومي والضباط الإنجليز أعضاء حكومته.
الرد على قانون المجلس التشريعي
كان الرعب مسيطرا على مدينة عدن حيث ظلت الطائرات النفاثة والهيلوكبتر تحوم في سماء المدينة منذ الصباح الباكر كنوع من التهديد، ومع هذا كله أعلن المؤتمر العمالي: "أن المعركة لا زالت قائمة... وهي لم تعد مجرد قانون يحرم الإضراب فحسب... بل أصبحت معركة الشعب أجمع، لينسف كل القوانين الاستعمارية... ويحقق النصر في الاستقلال السياسي والاقتصادي وتحقيق المجتمع الاشتراكي السليم... ونحن على علم بأن المزيد من التعسف والاضطهاد سوف يواجهنا ولكن إلى حين"(2).
إذن حزب الشعب الاشتراكي لم يأتِ من فراغ ولم يكن نبتة غريبة عن واقع الوطن اليمني، بل أتى متواصلا مع دور المؤتمر العمالي في "قيادة الرأي العام وارتباط قطاع كبير وهام من الشعب بالمؤتمر، هو قطاع العمال الذين تعتمد عدن كميناء تجاري ومدينة تجارية، على جهودهم أكبر اعتماد".
ثم يأتي رفض المؤتمر للدستور الجديد واعتبار المقاطعة نقطة انطلاق لكفاح طويل مؤكدا رفض قرارات "المجلس التشريعي" والتأكيد على حق أبناء الشطر الشمالي من الوطن في ممارسة حقوقهم السياسية كاملة، ورفض القيود المالية التي تحول دون مزاولتهم لتلك الحقوق، كما رفض قانون الهجرة الأجنبية وملحقاته التي تجيز لأبناء الكومنولث مزاولة حقوقهم السياسية في المستعمرة مع التشديد على حرمان أبناء شمال الوطن، ومحاولة تقييد إقامتهم ومزاولتهم للأعمال. حقا لقد كان هذا الموقف حافزا للقاء الهيئات السياسية التي تداعت لمواجهة الأحداث والرد على قانون المجلس التشريعي وهي:
- المؤتمر العمالي
- الاتحاد اليمني
- رابطة أبناء الجنوب
- حزب الجبهة الوطنية المتحدة
إذ رفعت مذكرة إلى الحاكم العام في 26 ديسمبر 1958م تتضمن قراراتها تعديلات دستورية للمجلس التشريعي وتتلخص في:
1- أن يرفض المجلس المقترحات الدستورية التي قدمتها حكومة بريطانيا كلية لأنها لا تستجيب لمطالب الشعب العربي، كما أنها تهدد قوميته.
2- أن يتخذ الخطوات الفعالة لإحباط تنفيذ المقترحات المذكورة وإعلان مقاطعة الانتخابات والتعبير عن رفضها.
3- أن يلتزم كل عامل نقابي حر ينتمي إلى هذا المؤتمر بتنفيذ هذه القرارات كلية.
4- أن يناشد جميع الهيئات والمواطنين بضرورة التجاوب مع هذه القرارات وعدم الاشتراك مطلقا في عملية الترشيح والتصويت.
5- أن يبلغ قرار المقاطعة لجميع أعضاء النقابات المنتمية إلى المؤتمر العمالي ويتأكد من تنفيذها.
6- أن يصدر كتيبا صغيرا بواسطة لجنة الثقافة والنشر يشمل كل هذه القرارات ويبسطها للمواطنين.
7- أن يعلن عن رفضه للمقترحات الجديدة هذه في الوقت الذي يرفض فيه الاعتراف بالمجلس التشريعي القادم كممثل لأماني الشعب ومطالبه ومصالحه.
8- أن يتعاون مع كل هيئة وطنية تتفق قراراتها وقراراته. (2)
البعثيون ينسحبون من المجلس البلدي
ونظرا لتتالي وتتابع الأحداث فقد أصدر المؤتمر العمالي بيانا في 17 سبتمبر 1958م يؤكد رفضه القاطع للتعديلات الدستورية ومقاطعته للانتخابات، ويدعو إلى الانسحاب من المجلس البلدي كما نشرت صحيفة "العامل" البيان مع مقال حول الرشوات في الإدارات الحكومية، في نفس التاريخ، وعلى إثر إعلان ذلك البيان فقد انسحب النائبان الرفيقان عبده خليل سليمان، وهو نائب رئيس المؤتمر العمالي ونقيب عمال البحر، ورئيس تحرير صحيفة "العامل"، و(قد كان يمثل دائرة التواهي في المجلس) والنقيب محمد سالم علي نقيب عمال الباصاتٍ (الأتوبيسات) وصاحب مطبعة البعث التي تطبع "العامل" (وقد كان يمثل دائرة كريتر)، وقد انسحب معهما أيضا الأستاذ مصطفى عبد الكريم بازرعه، من نواب دائرة المعلا، وكذا لسيد عبد القوي خليل من نواب دائرة كريتر (2).
فقد كان لهذا الموقف الوطني الشجاع الذي عبر عنه أعضاء المجلس البلدي والذي جاء استجابة لنداء المؤتمر العمالي، أثرا كبيرا ، في تدعيم موقف الهيئات الشعبية الرافضة للتعديلات الدستورية ،وشجب الانتخابات ، فأشاع تفاؤلا كبيرا في الأوساط الشعبية المختلفة،في وقت كان رد الحكومة ردا منفعلا ،إذ رفع (محامي التاج "مساعد المدعي العام") قضية ضد كل من الرفيقين عبده خليل سليمان ومحمد سالم علي بدعوى امتهانهما لكرامة المحكمة وذلك بسبب ما نشرته صحيفة "العامل" ضد حكومة الاحتلال، فاعتبر هذا الموقف ردا عمليا بريطانيا منفعلا على استقالتهما من المجلس البلدي ومحاولة لمنع حرية التعبير(2).
نقطة تحول في الكفاح الوطني
لقد كانت محاكمة المناضلين مسرحية بريطانية لخلق نوع من الرعب وفي محاولة لإيقاف الاحتجاجات والاعتراضات ومنع المواجهات وكتم حرية التعبير، ومع هذا فلم يعبأ المناضلون في المؤتمر بهذا النوع من التهديد والوعيد، وأتت قرارات المحكمة المتعسفة لتهييج الجماهير في محاولة لتخليص المناضلين عبده خليل سليمان ومحمد سالم علي ،من أيدي (البوليس) قبل إيصالهما إلى السجن، فكانت المعركة بالحجارة والقوارير الزجاجية الفارغة، فازداد الاندفاع نحو السجن لتحول الجماهير دون دخول النقابيين العماليين القياديين البارزين إلى السجن، فاستخدم (البوليس) القنابل المسيلة للدموع،ثم الذخيرة الحية لتفريق المتجمهرين، فسقط العشرات من الضحايا، كما ألقي القبض على المئات من العمال من أبناء الشمال، الذين رُحِلوا فورا إلى شمال الوطن. وتلا ذلك إلقاء القبض على الرفيق المناضل والشاعر الوحدوي إدريس حنبلة ،وحكم عليه أربع سنوات ،لقي فيها أشد وأسوأ أنواع المعاملة في سجنه رحمة الله عليه. وأمام صمود المناضلين وإصرار القيادات على متابعة المسيرة لم تتمكن الإجراءات المتشددة من قبل سلطات الاحتلال، تلك الإجراءات التي اتبعت لمواجهة الاعتراض على التعديلات الدستورية وقوة المقاطعة للانتخابات، لم تتمكن من إحباط جدية المواجهة بل أكدت نجاح المقاطعة وباعتراف من الصحف التي كانت تدور في فلك الاحتلال، إذ أكدت صحيفة "الأيام" الصادرة في 20 يناير 1959م من خلال افتتاحيتها بقلم رئيس تحريرها الأستاذ باشراحيل الذي كان عضوا في المجلس التنفيذي السابق تحت عنوان "هذا طريقنا" قائلا: (إن أروع ما قرأت في الأيام الأخيرة هو المقال الذي كتبه الزميل حسين علي بيومي في "الكفاح" حول نجاح المقاطعة الشعبية ضد انتخابات المجلس التشريعي.... أقول أروع ما قرأت لسببين رئيسيين- الأول إن المقال في مجموعه ومضمونه يعتبر تسجيلا أمينا للحقيقة والتاريخ والثاني إن هذا التسجيل بالذات أتى على لسان الزميل البيومي وهو الذي اختير في جميع المعارك الانتخابية وخاصة المعركة الأخيرة للمجلس التشريعي إلى جانب أخيه المحترم حسن علي بيومي صاحب "الكفاح" ورئيس تحريرها الذي فاز بالانتخابات ذاتها.
وعندما أشير إلى المقال المذكور أشهد الله بأني لا أقصد سوى الإشادة بالروح الوطنية التي حملتها إلى القراء كل كلمة وردت في المقال... وهي الحقيقة التي أشرت إليها في "الأيام" وأشارت إليها الصحف الوطنية الأخرى حول النجاح العظيم الذي أحرزه الشعب في مقاطعته لانتخابات المجلس التشريعي وعندما يقول الزميل البيومي كلام كهذا: "ولو لم يكن هناك هجرة وأبناء كومنولث منحوا حق التصويت والانتخابات لأقفرت مراكز التصويت إلا من أخ لمرشح أو نسيب له أو ابن عم أو خال أو صديق". عندما يقول هذا الكلام إنما يجزم بكل تأكيد بالنقطة الهامة وهي أن الجاليات الغير عربية هي التي اشتركت في التصويت بل كان لها الفضل- إذا صح هذا التعبير- في فوز المرشحين وسقوط غيرهم).... مواصلا: (إن كلمة "شعب" لا تنطبق إلا على عرب هذه البلاد أصحاب الحق فيها... وهم ليسوا سوى جزء لا يتجزأ من الشعب العربي الواحد. هذه هي حقيقة الانتخابات... والتاريخ عندما يسجل الحقائق لا يخشى في تسجيله لومه لائم، وستظل هذه الصفحة من التاريخ مرجعا للأحفاد ومن يليها عندما يقرأون تاريخ الكفاح الوطني في هذه البلاد العربية. بقي علينا الآن أن نعرف شيئا آخرا- إن المقاطعة كانت نقطة تحول في الكفاح الوطني، ونجاحها أحدث تغييرا جذريا في التفكير الوطني السياسي بصورة عامة. إن الخوف على اندثار قوميتنا العربية أصبح يملأ قلوبنا جزعا من هول ما رأيناه في الانتخابات، إن القومية العربية هي كل ما نملكه اليوم ونعتز به. إن الشعب العربي في كل جهة من الوطن العربي الكبير أصبح يدين بمبادئ القومية العربية والوحدة العربية... في طريقه بكل ثبات وإيمان لتحقيق هدفه المنشود "الوحدة العربية".)
إنشاء حزب الشعب الاشتراكي
لا شك أن التنظيمات السياسية التي عاصرت نشاط الحركة العمالية وتفاعلت معها وبعض قيادييها البارزين كانوا قد احتلوا مواقع متقدمة في نقابات العمال وأسهموا إسهاما فاعلا في توسيع وترسيخ دور المؤتمر العمالي القوي والمؤثر في أوساط الجماهير، ولا شك أيضا أن الكثير من الذين كتبوا عن تلك المرحلة وشخصوا تعقيداتها وتابعوا تطوراتها أدركوا بموضوعية لماذا نشأ حزب الشعب الاشتراكي، وهم يتابعون -أيضا - الموقف البريطاني،الذي كان يلح على فصل الحركة العمالية عن النشاطات السياسية في محاولة لجعلها حركة مطلبيه ذات بعد اقتصادي واجتماعي فقط ، هذا الإصرار أو الإلحاح دفع بالكثير من القياديين البارزين في المواقع المتقدمة في المؤتمر العمالي إلى التفكير الجاد لإنشاء حركة سياسية تعزز دور الحركة العمالية، وليس كما يطرح البعض أن قياديا بارزا في المؤتمر العمالي وغيره من القادة غير الحزبيين فكروا في تشكيل حزب خاص بهم في مبادرة استباقية قبل أن تنجح الأحزاب السياسية التي لها ثقل سياسي وفكري داخل صفوف المؤتمر العمالي من أن تسحب البساط من تحت أقدام ذلك القيادي والاستيلاء على قيادة الحركة العمالية بدلا عن العناصر القيادية غير الحزبية التي كان لها دور فاعل ونشط في الوسط العمالي والسياسي أيضا، من أجل ذلك وكما يقول الأستاذ شاكر الجوهري :"وفي يوليو 1962 دعا المؤتمر العمالي العناصر الوطنية الشريفة إلى دراسة فكرة إنشاء حزب سياسي ثوري تكون له قاعدة شعبية تشمل بجانب العمال، صغار التجار والمزارعين والشباب والمرأة والخريجين. وبعد لقاءات عديدة تقرر إنشاء حزب الشعب الاشتراكي ليقود المعركة السياسية معتمدا على تأييد المؤتمر العمالي وبقية القطاعات الشعبية الفعالة"(3).
حزب الشعب واجهة أساسية للمؤتمر العمالي
غير أن الواقع المعاش آنذاك يختلف في جوهره عن طروحات بعض الكتاب والنقاد خاصة وأن الأحزاب السياسية بعد ثورة 26 سبتمبر وبروز الخــــــــلاف بين عبدالناصر والبعث الذي كان له انعكاس مباشر على علاقة البعثيين بحركة القوميين العرب والعناصر المؤيدة للرئيس جمال عبدالناصر من جهة، ومن جهة أخرى كان المؤتمر العمالي أشبه بحزب الأحزاب، إذ تواجد في صفوفه البعثيون و القوميين العرب والماركسيون والعناصر الوطنية المستقلة، وإلى جانب هذا وذاك كان بعض القياديين في المؤتمر العمالي بدون شك يحرصون كل الحرص على تجنب الاحتكاك مع قيادة الجمهورية العربية المتحدة، بل ويحرصون كل الحرص - وخاصة بعد انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة -على حصولهم على دعم سياسي وعمالي على الأصعدة الوطنية والقومية والدولية، هذه التصورات والتباينات لا شك دفعت قياديين بارزين وفي مقدمتهم عبد الله عبد المجيد الأصنج، على إنضاج فكرة إنشاء حزب الشعب الاشتراكي في شهر يوليو1962م، منطلقا من حرصه الشديد على بقائه في الموقع المتقدم في المؤتمر العمالي من جهة، ومن جهة أخرى أن يكون له موقعا متقدما في حزب الشعب الاشتراكي ، فيتمكن بذلك من جعل حزب الشعب الاشتراكي واجهة أساسية للمؤتمر مع بقاء المؤتمر العمالي عمودا فقريا للحزب، فيحقق بذلك نقلة نوعية داخل الساحة، نقلة تمتلك زمام المبادرة السياسية والفكرية إلى جانب قوة الدفع الشعبية المحددة في كينونة حزب الشعب الاشتراكي، التي حددها برنامجه بحزب يضم العمال وإلى جانبهم قطاعات صغار التجار والشباب والمزارعين والمثقفين والمرأة، معتقدا أن هذه النقلة ستمكنه من تجاوز أزمة الحركة العمالية وتجنبه أية أزمة سياسية تسحب بساط المبادرة من تحت أقدامه.
فرز سياسي تنظيمي جديد
ولا يفوتنا هنا من القول أن الأخ الأستاذ قادري كان قد لامس إلى حد كبير في تقييمه للظروف المحيطة بالمؤتمر العمالي ,ونشأة حزب الشعب الاشتراكي،قد لامس كبد الحقيقة حين قال:"إن الموقف الأقرب إلى الدقة الموضوعية التاريخية والفهم السليم لحقائق التاريخ، هو أن تشكيل حزب الشعب الاشتراكي إنما جاء تعبيرا عن أزمة سياسية، وفكرية ونضالية عميقة تعيشها القيادة السياسية الإصلاحية التقليدية في قيادة الحركة العمالية، بدءا من عبد الله الأصنج السياسي المراوغ، حتى القيادات السياسية القومية البعثية الإصلاحية التاريخية التي انكمش دورها، وتجمد فكرها السياسي ،....... ولم تتمكن من تجاوزه، بدأ معه ينسحب البساط السياسي والجماهيري من تحت أقدامهم".... مضيفا: "فقدوا القدرة على السيطرة على قاعدة الحركة العمالية التي بدأت تتوزع، وتستقطب على قاعدة فرز سياسي تنظيمي جديد بين الاتجاهات السياسية القومية والتقدمية الجديدة، حركة القوميين العرب والماركسيين، شباب البعث، بعد أن فشل النهج السياسي للقيادات الإصلاحية التقليدية في إدارة وقيادة الحركة العمالية والنقابية في جنوب اليمن". ويضيف منتقدا رؤية وممارسة القيادة الإصلاحية آنذاك،التي كادت توصل العمل السياسي والحركة العمالية بشكل خاص إلى نفق مظلم، خاصة عندما سعت إلى تقييد الحركة العمالية بسياسة النهج الاقتصادي فقط ومحاولة السعي الجاد إلى: "الفصل بين العمل النقابي العمالي، والعمل السياسي الوطني الديمقراطي... تماشيا مع توجهات بعض قيادات المؤتمر العمالي، في ارتباطاتها الخارجية بحزب العمال البريطاني، وباتحاد العمال العالمي الحر للنقابات في "بروكسيل" الذي قيد كفاح الحركة العمالية والنقابية في حدود المطالب الجزئية الاقتصادية، وفي نطاق العمل السياسي الدستوري، المفاوضات، المساومات التكتيكية على قضايا سياسية وطنية إستراتيجية، بعد أن بدأ خيار المواجهة المسلحة يطل برأسه في هذا الموقف أو ذاك، وتأسيس حزب الشعب الاشتراكي لم يكن "طعما ابتلعه حزب البعث" كما يقول الدكتور محمد الشهاري بل تلبية لحاجة سياسية تنظيمية مرتبطة بمصالح اتجاهات القوى السياسية الانتهازية في قيادة الحركة العمالية، والجماعة السياسية الإصلاحية التقليدية في إدارة العمل السياسي الوطني في البلاد، ونستطيع القول: أنها أزمة قيادة رأس الاتحاد العمالي بمختلف اتجاهاته، الأصنج، والجناح الإصلاحي التقليدي في قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي"طلائع حرب التحرير.
نعم لقد كانت بالفعل أزمة سياسية طالت قيادة منظمة البعث آنذاك التي اجتهدت خارج إرادة الأغلبية التي كانت مع الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية ،الأغلبية التي انتصرت إرادتها وان كان ذلك متأخرا في تشكيل "منظمة طلائع حرب التحرير" بقيادة الرفيق احمد سكران،الذي اغتالته الجبهة القومية فيما بعد تواصلا مع سياستها الدموية التي انتهجتها في تعاملها مع خصومها العقائديين والسياسيين المعارضين لأساليبها الوحشية والهمجية.بهذا الصدد يقول محمد جمال بارت(وفي هذا السياق سارعت منظمة البعث وشكلت جهازا فدائيا عسكريا تحت اسم "منظمة طلائع حرب التحرير"بقيادة احمد سكران،وقد عارضت قيادة الفرع برئاسة انيس حسن يحي تشكيل هذه المنظمة،بينما دعمتها بقية منظمات الحزب.)(4)
دعاة التفاوض والمأزق التاريخي
وبالرغم من موضوعية ما ذهب إليه الأستاذ قادري إلا أننا نود التذكير إلى أن هناك كثير من المحفزات و المبررات القوية أيضا التي عجلت بإنشاء حزب الشعب الاشتراكي ،وأهمها تكمن في بروز غالبية شباب البعث وبروز تيار قومي ووطني أظهر تململا حقيقيا أمام القيادات السياسية الإصلاحية التي بدأت تتعاطى مع الطروحات الفضفاضة التي حاولت بريطانيا التسويق لها منذ وقت مبكر 1958-1959م، وهي قضية المفاوضات السياسية في حل مشكلة جنوب اليمن ،في محاولة لتمرير مخططها الاستعماري لترسيخ بقائها،فكثفت جهودها وجهود حلفائها ،بعد قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م وإعلان ثورة 14اكتوبر1963م ,إذ وجدت نفسها أمام مأزق تاريخي ينبغي مواجهته بمختلف الوسائل كي تتجاوز عملية الكفاح المسلح في محاولة لاحتوى الموقف عبرا لمساومات السياسية متجاهلة أن من شم رائحة البارود وهي تمتزج مع رائحة دم شهداء الوطن وهو في ساحة المواجهة التاريخية لا يقبل بالمساومة السياسية بديلا للنصر أو الشهادة. وقد استوعبت قيادة المؤتمر العمالي أبعاد الجدل السياسي والفكري الذي رافق المتغيرات داخل الساحة الوطنية والقومية واستحضرت كافة المواقف النضالية والسياسية للمؤتمر العمالي وبرنامج حزب الشعب الاشتراكي المؤكد على مبدأ التحرير الكامل والاستقلال الناجز وتقرير مصير الجنوب وصولا لوحدة اليمن من جهة، ومن جهة أخرى رفض فكرة اتحاد إمارات الجنوب العربي التي حاول الاستعمار طرحها في مواجهة الغليان الثوري الذي كان طاغيا بعد قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر.
ميثاق الاتحاد القومي لليمن
لقد كانت هناك مبررات لوجود حركة جادة تعلن عن مولود جديد يستوعب خط المواجهة الثوري بأبعاده الإستراتيجية، وبدأ التحرك من أجل تنفيذ "ميثاق الاتحاد القومي لليمن"، والذي ساهمت في صياغته تقريبا معظم القوى بما فيها المؤتمر العمالي حيث ورد في ديباجته "من خلال البعث الذي تعيشه قضيتنا، قضية القومية العربية اليوم- ومن خلال نضالنا... نضال الشعب العربي من أجل تحقيق أهدافه ومن أجل بلوغه مستوى الرسالة الخالدة التي لا بد أن يؤديها. ومن خلال انتصاراتنا.... انتصارات القومية العربية الصاعدة.... ومن خلال تجاربنا التي مارسنا حلوها ومرها. ومن خلال كل هذه العوامل مجتمعة نقف اليوم في هذا الإقليم من الوطن العربي الكبير وقفة الجندي الذي وعى قضيته وعرف دوره فيها فوقف يراجع خططه، ويصنف أعداءه ويمتحن أسلحته ويتأهب لفتح المعركة واثقا مطمئنا من نجاحه مصمما على النضال الذي لا رجعة فيه ولا تراجع... النضال حتى يبلغ مستوى الرسالة الخالدة التي قدر له أن يؤديها. من خلال كل هذه الظروف وهذا الوعي وهذه الروح القومية وهذا البعث العربي الجديد... نقف اليوم نستلهم جماهيرنا للتعبير السليم في نضالنا والطريق السوي لكفاحنا، ونقدم هذا الميثاق ملتزمين بما ورد فيه التزاما يستدعي بالضرورة أن يلتزم المتحدون معنا في هذا التجمع القومي بما يرد فيه نصا وروحا". كما أكد على أهمية(بذل المساعي لتوحيد الصف الوطني وتحقيق منظمة سياسية فعالة تحتضن المبادئ الوطنية الملخصة في الميثاق القومي وإعداد برنامج سياسي عملي يحقق سيطرة القوى الوطنية وتحقيق استقلال المنطقة من كل نفوذ سياسي واقتصادي أجنبيين ووحدتها الشعبية الخالصة.(2)
(المادة الأولى):
(1 ) تعريف الاتحاد القومي لليمن:الاتحاد القومي لليمن تجمع يحوي الهيئات الشعبية:سياسية وعمالية ورياضية واجتماعية في كل اليمن .
(2)مقره الرئيسي مدينة عدن،ويجوز نقله لأي مدينة أخرى.
(3 )مهمته العمل على توعية الشعب العربي في كل اليمن من اجل تحقيق الأهداف النضالية الملخصة في الوحدة والحرية والاشتراكية.
المادة الثانية:
(المبادئ الأساسية)
1-الشعب العربي في اليمن جزء من الأمة العربية،واليمن جزء من الوطن العربي.
2- الإيمان بوحدة إقليم اليمن نابع من إيماننا بوحدة الوطن العربي ،ومن واجب الوطنيين أن يكافحوا في سبيل تحقيق وحدة اليمن كجزء من نصيبهم في المعركة القومية.
3- الجمهورية العربية المتحدة هي نواة الحقيقة للوحدة العربية الشاملة من المحيط إلى الخليج،واى إقليم عربي يتحرر من الاستعمار يجب أن يتحد فورا مع الجمهورية العربية المتحدة.
4- يؤمن المجتمعون بان محاربة الاستغلال الإقطاعي والاحتكاري ضرورة لتحقيق حياة اشتراكية نابعة من ظروف وحاجيات الشعب العربي لتتيح الفرصة لملكات الشعب العربي أن تبدع نظاما إنسانيا في هذه المنطقة من العالم،قياما بدور العرب التاريخي وأداء لرسالتهم الخالدة في حماية البشرية من الاضطهاد والاستغلال.
5- يؤمن المجتمعون بان الحياد الايجابي خير سبيل ينتهجه الشعب العربي لصون السلام في أرضه وفي العالم.(2)
المراجع:
1- الأحزاب القومية في اليمن النشأة- التطور- المصائر- قادري احمد حيدر
2- عمال اليمن في المعركة- دار ألهنا للطباعة عدن- عبد الله الأصنج
3- الصراع في عدن- شاكر الجوهري
4- الأحزاب والحركات القومية العربية،الجزء الأول- جمال بارود وفيصل دراج3
 
 
الإحياء نت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق