كنا قد أشرنا في الحلقة الماضية أننا سنتناول في الحلقات القادمة دور الرعيل الأول المؤسس ثم الرعيل الثاني المتابع والرعيل الثالث المواصل للمسيرة الأولى والمتتبع لخطوات التأسيس والإعلان الرسمي بعد أن أصبح للحزب وجودٌ وتأثيرٌ في الأوساط العمالية والطلابية والنقابات المختلفة، ومن المفيد هنا الحديث عن المرحلة الأولى وهي مرحلة التبشير والتأسيس التي ارتبطت بجو المؤتمر التأسيسي القومي الأول للبعث وقراراته التي كانت بمثابة بذرة تتبلور كي تشق طريقها إلى النور ممتدة إلى أبعادها التي تغطي الوطن الكبير، متفاعلة مع كل الذين تفاعلوا مع معانيها الكبيرة وآفاقها الإستراتيجية. لقد كان البعثيون كما يقول الأستاذ شبلي العيسمي في كتابه (حزب البعث العربي الاشتراكي مرحلة الأربعينيات التأسيسية- 1940-1949م) "وفي مطلع الأربعينيات، التقى حولها- يقصد هنا فكرة البعث أو بذرة البعث- , أفراد قلائل لم يتجاوزوا أصابع اليد عددا. وراحوا يعملون معا على أساس من التنظيم العفوي البسيط. وما هي إلا سنوات معدودة حتى تكاثروا وأصبحوا عشرات فمئات. والحق أنهم وجدوا في أفكار البعث ضالتهم المنشودة. ولم يكونوا هم غرباء عنها، ولم تكن هي غريبة عنهم. بل كانت معبرة عما يشعرون به ويتحسسون بضرورته. ذلك أن هذه الأفكار ما كان لها أن تؤثر فيهم، وتفعل في نفوسهم فعل السحر. لو لم تعبر بصدق وعمق، عن تطلعاتهم ومشاعرهم الوطنية والقومية". هذه الفقرة تصبح قاعدة معبرة عن كل البعثيين في كل الأقطار وليس فقط في القطر الذي تأسس فيه حزب البعث.
البعثيون الأوئل
نعم يتحدث الأستاذ شبلي عن القاعدة العامة التي حكمت كافة البعثيين الذين تحملوا مسئولية استقبال البذرة ونقلها إلى محيطهم الوطني والقومي بحماس وتفاعل يكاد يفوق الوصف، ويضيف في هذا المجال الأستاذ شبلي في نفس المصدر سابقا "لقد كان البعثيون الأوائل، وأكثريتهم الساحقة من الطلبة، يمارسون نشاطهم، ليس بنشر أفكارهم والتبشير بها وإثارة المناقشات حولها فحسب، وإنما بالمشاركة الفعلية في التظاهرات، والمناسبات الوطنية المختلفة. ولقد استطاعوا على قلة عددهم، أن يلفتوا الأنظار إلى وجودهم، ودعوتهم الجديدة، من خلال سلوكهم، ومناقشاتهم المتميزة بالإخلاص والصدق، وحرارة الإيمان". مضيفا، "ولا أبالغ إذا قلت... كان الواحد منهم إذا تحدث عن مبادئه أو تحرك من أجلها، تحس وكأنه صوفي، واثق من سلامة دعوته. قلبه عامر بالأمل والتفاؤل، نفسه مترعة بالثقة المطلقة. ويتكلم بحماس المؤمنين ويتحرك باندفاع الثوريين. يعمل للمستقبل البعيد بصبر ونفس طويل، لا أثر فيه للوصول والاستعجال، يتصرف كما لو كان مسئولاً وحده عن تحقيق أهدافه الضخمة، ولا يبالي بساخر أو مستهزئ، بل يضاعفان فيه الهمة والعزيمة. آلام النضال ومتاعبه، تزيده عناداً وصموداً في عقيدته، فتصبح هذه بلحمه ودمه وجزءاً من كيانه، توجه سلوكه وتؤثر بقوة في مسيرته ومجرى حياته. ثقته بنفسه وبأمته تامة عظيمة، وبيقينه بصدق مبادئه وقيادته، مطلق وعميق. وكانت الروح الرفاقية، القائمة على الأخوة، والمحبة، قوية نامية، بعيدة عن آثار الانتهازية والمناورة وتسقُط الأخطاء وتجميعها لأغراض ذاتية".
عهد البطولة
أما القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق رحمة الله عليه فقد وصف مرحلة التبشير والتأسيس "بعهد البطولة"، وصف الجيل الجديد في مقال له عن عهد البطولة إذ يقول: " إن صفحة الضعفاء والنفعيين والجبناء، يجب أن تُطوى، وتحل محلها صفحة جديدة، يخطها الذين يجابهون المعضلات العامة، ببرودة العقل ولهيب الإيمان، ويجاهرون بأفكارهم ولو وقف ضدهم أهل الأرض جميعاً"، مضيفا في وصفه للشبيبة الذين يتهيئون لحمل رسالة البعث بقوله: "لهم صدق الأطفال وصراحتهم، وحياتهم لا فرق بين باطنها وظاهرها، قساة على أنفسهم، قساة على غيرهم، غايتهم الحقيقة، لا أنفسهم، وإذا تبينوا الحق في مكانٍ، أنكر من أجله الابن أباه وهجر الصديق صديقه". وفي مكان آخر يقول: "نحمل رسالة لا سياسة، إيمانا وعقيدة، لا نظرياتٍ وأقوال" مواصلا حديثه عن الجيل الجديد حيث يقول: "العمل ليس عادياً آنياً، بل تاريخي، وليس سياسة بل رسالة، لأنه مكلف بتصحيح انحراف عصور عديدة ماضية، وتهيئة انبعاث للأمة، يؤتي أُكله في عصور عديدة مقبلة. وليس ينجح فيه جهد أفراد وأسلوب سطحي، وإعداد مرتجل، فلا بد إذاً من جيل بكامله مهيأ لأن يبدع في النضال حتى يستمر فيه إلى نهايته.... ومن العبث أن ننتظر ظهور هذا الجيل إذا لم تظهر فكرته" (نفس المصدر السابق- ص 87).
ثم يأتي دستور البعث ليؤكد في مقدمته إن (الحزب فكرة "مبادئ" وروح "إيمان" تتجسدان في أفراد وتنتشران في جمهور.... وإن فكرة حزب البعث قد نبتت من حاجات العرب لتمثل أمانيهم وتهيئ لهم سبيل الانبعاث).
الخلط والمغالطة والتزوير
ومما لا شك فيه أن الذين استوعبوا هذه المعاني وتفاعلوا معها من البعثيين الأوائل اندفعوا إلى أمام يبشرون ويؤسسون ويخوضون المعارك الكبيرة والصغيرة المرتبطة بأهدافهم وشعاراتهم، متحلين بالصبر والمثابرة، من أجل بناء كيانهم الحزبي في هذا أو ذاك من أقطار الأمة، وهكذا تواصل النضال في كل ساحة من ساحات الأمة بطرق وأشكال قد تكون مختلفة في الأساليب ولكنها متفقة وملتقية في الأهداف، وكان طابع عملهم النضالي عاماً بينما التنظيمي خاص وفي منتهى السرية والدقة لأنهم يواجهون تحديات كبيرة وقوى معادية مختلفة.
بالرغم من هذه الصورة الجميلة التي رافقت مرحلة التبشير والتأسيس والانطلاق الأول لتوسيع دائرة الانتشار والحركة التنظيمية البعثية في أكثر من قطر. إلا أننا وجدنا محاولات للنيل من هذه المرحلة وذلك بعد إطلاعنا على ما كتبه معظم الذين حاولوا أن ينصبوا أنفسهم مؤرخين نيابة عن البعث أو أوصياء عليه، وجدنا كثرة الخلط والمغالطة والتزوير، حيث تناولوه وفق أمزجتهم، فكتبوا ما يحلوا لهم أو للجهات التي أوحت لهم بتحريك أقلامهم وتجميد عقولهم وملكاتهم البحثية - إن كانوا في تعداد الباحثين- إذ أن الباحث إذا لم يتقصى الحقائق بدقة ويتابع أطراف الموضوع من مختلف زواياه فلا يمكن أن يكون باحثاً، نعم قد تكون هناك جهات أوحت لهم أو طلبت منهم أو كلفت أجهزتها المختلفة تزويدهم بمعلومات "مطبوخة"، "مغربلة"، تريد منهم أن "يعبروها" أو يتفننوا في اختراع تاريخ مفصل للبعث ومركب وفق قياسات المطابخ التي أعدَت المعلومات، فيخرجون بثوبهم المفصل والمحكم من قبل ردة 23 شباط عام 1966م، أو بثوب مرقع تفننت في إخراجه أجهزة المخابرات المصرية والعربية وكل القوى الحاقدة على البعث، التي رأت فيه خطراً عليها وعلى معظم الأنظمة العربية الكرتونية، مستعينة بدهاقنة مصممي حلقات الإعلام الصهيوني المعادي للأمة وكل ما هو عربي تقدمي ثوري معادي للصهاينة، والاستعمار الغربي والإستراتيجية الأمريكية، المعادية للوحدة العربية، والنهضة العربية، والتقدم العربي.
ساحة مفتوحة للتآمر
نعم بعد إطلاعنا على هذا الخلط الهائل والعجيب المعبر عن ساحة مفتوحة للتآمر على البعث عبر أجهزة إعلامية وغير إعلامية للتشكيك به وأهدافه في الوحدة والحرية والاشتراكية وشعاره أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، وتمادي بعض الباحثين وتجاوز حدود الموضوعية وظهور أشباه الباحثين الذين ينطبق عليهم المثل الشعبي القائل "........ " وخاصة بعد أن كبر البعث وتوسعت نشاطاته في الوطن الكبير بعد قيام وحدة مصر وسوريا واستلامه السلطة في كل من سوريا والعراق وتوقيع اتفاقية الوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسوريا عام 1963م، فتصاعدت حمى التآمر عليه وعلى أفكاره وقيمه ونظريته، مكثفة لعبة التضليل والخداع والغش والتزوير ضد مبادئه وطروحاته وأهدافه وشعاراته.... هكذا تعددت القوى المعادية بعد أن تنبهت إلى خطورة منهجه العقائدي المعادي للرجعية والاستعمار والاستغلال والصهيونية والعمالة والتردد والعنصرية والعرقية والشوفينية.... تنبهت كل هذه القوى وكما يقول الأستاذ شبلي العيسمي في نفس المصدر السابق: "تنبهت إلى خطره ونشطت ضده كل القوى المعادية لشعاراته، وكثرت الكتابات والبحوث عنه، ولكن بعضها تضمن الطعن والتجريح بتاريخه ونضاله، في حين أن بعضها الآخر عمد إلى التشويه والتحريف حينا، وإلى التزوير والاختلاق حينا آخر. ومن الأمثلة البارزة على ذلك هو الإدعاء بأن الأستاذ زكي الأرسوزي هو المؤسس الأول و الحقيقي لحزب البعث العربي الاشتراكي. ونظرا إلى رواج هذه المقولة بفعل الدعاية الإعلامية القوية التي قام بها حكام دمشق بعد انقلابهم على الحزب وقيادته التاريخية في 23 شباط 1966م... فقد رأينا من المفيد توضيحها على الوجه التالي:
1- الأستاذ زكي الأرسوزي من مواليد اللاذقية عام 1900م، درس الفلسفة في فرنسا وعاد للتدريس في أنطاكيا، وانتمى إلى عصبة العمل القومي التي كانت من أبرز المنظمات السياسية في الدعوة إلى القومية والوحدة منذ تأسيسها عام 1933م إلى حين انتهاء الحرب العالمية الثانية. قاد الحركة الوطنية العربية في لواء الاسكندرون في النصف الثاني من الثلاثينات، وكان مناضلاً صلباً وصادقاً في مقاومة الاستعمار الفرنسي ومعارضة سلخ اللواء عن سوريا لضمه إلى تركيا. وعندما حصل الضم بالقوة والتآمر، غادر اللواء إلى المدن السورية الداخلية مع عدد من المواطنين الشباب.
2- لم يكن معروفا لدى الرأي العام السوري في مرحلة الأربعينيات أن هنالك تنظيما سياسيا بقيادة الأستاذ الأرسوزي، اللهم إلا قيادته للحركة الوطنية اللوائية التي دعت إلى التمسك بعروبة اللواء كجزء من سوريا العربية، ثم إصداره جريدة العروبة لخدمة هذه الحركة، ومما يؤكد عدم إنشائه لأي حزب سياسي ما ورد في المجلد الأول من مؤلفاته الكاملة من أنه "في هذه الفترة فكر بتأسيس حزب سياسي يطلق عليه اسم البعث. والفكرة وإن لم تتبلور وتتحول إلى تنظيم سياسي، فقد كانت لها نتائج طيبة... ففكرة العروبة اتضحت وأخذت شكلا شعبيا". وهكذا يتبين بوضوح أن المسألة بقيت في حيز التفكير ولم تتحول إلى تنظيم سياسي.
3- الكتاب الذي نشره في وقت كانت فيه أفكار حزب البعث في طور التبلور هو (العبقرية العربية في لسانها) عام 1943م ويبحث في نشأة اللسان العربي ومدلول الكلمات وكيف أن اللغة العربية "هي التي تكون الأمة وتعبر عن وجودها، وتكشف عن عبقريتها وفلسفتها وهي باعث الوعي القومي عند وعيها".... وآراؤه في هذا الكتاب وفيما كتبه في وقت لاحق متأثرة بالاتجاه القومي الوحدوي لعصبة العمل القومي وبالحركة القومية العروبية في اللواء، وكذلك بدراسة الفلسفة وتأثره ببعض المفكرين والفلاسفة الأوروبيين كـ هنري برغسون، وهيغل بأفكاره المثالية، مع شيء من الصوفية والغيبية.
مفهوم القومية والأمة والإسلام بين عفلق والأرسوزي
4- ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن ثمة فرقاً وخلافات سياسية بين التراث الفكري والسياسي لحزب البعث العربي الاشتراكي، التي لخصناها في الفصل الثالث، وبينما طرحه الأستاذ الأرسوزي حول مفهوم القومية والأمة والرسالة والحرية والوحدة.... ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، إن الحزب أيد ثورة مايس 1941م في العراق بينما اعتبرها الأرسوزي حركة انجليزية مشبوهة- وبينما رأى ميشيل عفلق في الإسلام "تجدد العروبة وتكاملها ويمثل وثبتها إلى الوحدة والقوة والرقي" فإن زكي الأرسوزي يعتبر الجاهلية هو العصر الذهبي للعرب كما أن مفاهيمه عن الأمة والرسالة والخلود مشوبة بنضرة غيبية وفوقية وفلسفية ميتافيزيقية، مع نزعة عرقية وعنصرية لم تستطع حجبها بعض المفاهيم الإنسانية لديه. كما أنه يؤمن بدور الزعيم أو البطل المنقذ للأمة، في حين أن البعث يؤمن بالجماهير وطلائعها الثورية المنظمة كأداة لتحقيق أهدافه القومية الإنسانية.... هذا فضلاً عن إهمال الأرسوزي للاشتراكية كهدف أساسي مرتبط بالوحدة والديمقراطية...
5- وإن آراؤه السياسية تمتزج بنزعة فلسفية مثالية وأفكار غيبية أحيانا أو ذات شطحات يطغى فيها التصوف والخيال والمبالغة أحياناً أخرى، كما أنها لم تستهدف بناء حركة سياسية منظمة، كما كان الشأن بالنسبة لمؤسسي حزب البعث.
6- في أول اجتماع للقيادة القومية بعد المؤتمر القومي الثامن للحزب في آذار- مارس عام 1965م واعتذار الأستاذ ميشيل عفلق عن منصب الأمين العام للحزب، اقترح حافظ أسد إعطاءه لقب "القائد المؤسس" وكان أول من أيده إبراهيم ماخوس. فلو كان الأستاذ الأرسوزي هو المؤسس الحقيقي للبعث فهل يخطر على بال حافظ اقتراح كهذا؟ وهو الذي تعهد فيما بعد بحماسة شديدة بمحاربة هذا اللقب وإبراز الأرسوزي كمؤسس للبعث؟"
محاولة بائسة غبية
ومما لا شك فيه إن انتصار البعث واتساع ساحاته وانتشار أفكاره دفع أعدائه القدامى والجدد، الظاهرين والمخفيين، إلى اللجوء إلى أساليب جديدة لمواجهة البعث وقيادته التاريخية والشرعية، مستنجدين جميعهم بردة 23 شباط التي أفتت لكل القوى المعادية بتبني لعبة العبث بتاريخ الحزب كمدخل لاجتثاث جذوره التاريخية في محاولات مكثفة "لعقد قران بين بعثهم وبين زكي الأرسوزي"، في محاولة بائسة غبية لفسخ العقد التاريخي بين البعث ومؤسسيه التاريخيين، ويأتي هذا في سياق ما قامت به ردة شباط من إغراق للمكتبات والأسواق بالمطبوعات المختلفة بهدف التضليل والتحريض والمغالطة، معتقدة أنها الوسيلة الوحيدة التي تستطيع من خلالها اجتثاث البعث من خلال اجتثاث مؤسسيه الحقيقيين، وتبني الأرسوزي إعلاميا على كافة المستويات ومحاولة تحريف نظرية حزب البعث من خلال استبدالها بهلامية الأرسوزي والغانم وسامي الجندي ومحمد الزعبي، وغيرهم ممن وظفوا في إطار مخطط الردة الشباطية، هذه المحاولات التي قام ويقوم بها بعض الباحثين للنيل من البعث وتاريخه ومؤسسيه هي أبعد من ملامسة القمر أو استحالة الصعود إلى السماء بحبال ردة 23 شباط 1966م، التي تبنت هؤلاء في سياق لعبة الأجهزة للتآمر على البعث ومحاصرته وخلط الأوراق حول تراثه ونظريته وأهدافه وشعاراته.
البعث والإحياء العربي
إنها لعبة الأنظمة المعزولة أي كانت وأينما كانت وكيفما كانت، ولنعد مرة أخرى إلى مغالطة تاريخية أخرى حول البعث والإحياء العربي: إذ يقول الأستاذ شبلي العيسمي:-
1- "على إثر العدوان الفرنسي على دمشق في أيار 1945م أُعجب الدكتور وهيب الغانم بمواقف حزب البعث فأرسل برقية من اللاذقية يضع نفسه مع بعض الشباب تحت تصرف الحزب، وفي العام التالي قام الأستاذ ميشيل عفلق ومعه الدكتور كمال مشارقة بزيارة نشاط حزبي إلى عدة مدن ومنها حمص وحماة وحلب ثم اللاذقية، حيث التقى مع هؤلاء المتأثرين بالأستاذ الأرسوزي، غير أن ارتباطهم بالحزب ولاسيما الذين كانوا بدمشق قد تم على أساس فردي وبأوقات متفاوتة وليس كجماعة أو كتلة متميزة. وهذا يعني أن الإدعاء بوجود تنظيمين أحدهما جماعة الإحياء العربي بدمشق والثاني جماعة البعث العربي في اللاذقية، اندمجا بعد التفاوض وشكلا حزب البعث العربي الاشتراكي، هو ادعاء غير صحيح ومدسوس على تاريخ الحزب لأغراض سياسية وطائفية رخيصة.
2- لو كان لهذا الادعاء جانب من الحقيقة، فلماذا انتمى أبناء محافظة اللاذقية إلى الحزب بشكل فرادى وبأوقات متباينة قبل المؤتمر التأسيسي، ولماذا كانت البيانات والبرقيات السياسية باسم البعث العربي توقع منذ 1943م من قبل ميشيل عفلق وصلاح البيطار، ولم يكن فيها اسم أو ذكر للغانم أو الأرسوزي أو أي من المتأثرين بهما- ولماذا كان الطلب المقدم من وزارة الداخلية في تموز 1945م من أجل الحصول على ترخيص رسمي باسم حزب "البعث العربي" موقعاً من ميشيل عفلق وصلاح البيطار ومدحت البيطار، وفيه إشارة إلى "إن حركة البعث نشأت منذ عدة سنوات" ولم يكن من بين الموقعين لهذا الطلب أحد ممن ادعوا أنهم كانوا مجموعة ذات شأن واندمجت بالحزب. ولماذا لم يكن من هذه المجموعة المزعومة أحد في قيادة الحزب قبل المؤتمر التأسيسي مع أن جلال السيد كان في هذه القيادة قبل المؤتمر ولم يكن مقيما بدمشق؟ ولماذا تحدث الأستاذ عفلق في جلسة افتتاح المؤتمر عن مراحل نشاط الحزب والصعوبات التي واجهته، ثم تحدث عند البدء، بمناقشة مواد الدستور عن منطلقاته الفكرية التي استند إليها ولم يذكر في كلامه تصريح أو تلميح لقضية اسمها جماعة الأرسوزي وأفكاره!
ولماذا اختير ميشيل عفلق بالإجماع عميداً للحزب بنهاية المؤتمر التأسيسي، ولماذا اختارت اللجنة التنفيذية صلاح البيطار أميناً عاماً للحزب ولم تختر الغانم كممثل لمجموعة مندمجة إذا صح الادعاء المزعوم! ولماذا لم تظهر من هؤلاء اعتراضات على ما كان يكتبه ميشيل عفلق والبعثيون الأوائل حول منطلقات البعث النظرية والفكرية وبالشكل الذي تظهر فيه آثار المفاهيم والمنطلقات الفكرية للأستاذ الأرسوزي. ولو جاز لم انتموا إلى حزب البعث ممن تأثروا بأفكار الأستاذ الأرسوزي، أن يدعوا بأنهم أسسوا حزب البعث، مع أن نسبتهم أقل من 10% من أعضاء المؤتمر التأسيسي، لحق لحزب الاستقلال أن يدعي بأنه المؤسس الحقيقي لحزب البعث (في العراق) لأن معظم البعثيين الأوائل فيه كانوا منتمين إلى ذلك الحزب مع أنه لم يخطر ببال أحد شيء من ذلك.
أهداف وغايات
3- من المغالطات أيضا هو الادعاء بأن وهيب الغانم هو الذي ضع المواد الاقتصادية والاجتماعية في دستور الحزب في حين أن اللجنة التي وضعتها كانت مشكلة من ثلاثة هم الدكتور عبد المنعم الشريف والمحامي عبد الرحمن المارديني وعضو ثالث، ولم يكن الغانم فيها. هذا مع العلم أن الأفكار والنقاط الأساسية المتصلة بالاشتراكية والسياسة الاقتصادية والاجتماعية التي أقرها المؤتمر التأسيسي كانت مدونة قبل سنوات من انعقاد المؤتمر التأسيسي وقبل تشكيل اللجنة التحضيرية، ولم يكن للغانم أي جهد في وضعها. وكانت متداولة باسم "أهداف وغايات" ونُشرت فيما بعد في العددين الثالث والرابع من صحيفة البعث عند صدورها عام 1946م".
باروت و ذباب الموائد
بعد هذا التوضيح الدقيق والموضوعي نجد الأستاذ شبلي العيسمي يقول "وبعد فإننا إذ نأسف لهذا التزوير المتعمد في تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي، نستطيع القول مع وافر الثقة والاطمئنان، إن كل ما أُثير في هذا الصدد كان بدوافع سياسية وطائفية رخيصة يستهدف النيل من مؤسسي البعث الحقيقيين وإضفاء الشرعية على حكام دمشق بعد انقلابهم العسكري على الحزب وقيادته التاريخية والشرعية في 23 شباط 1966م، وكان من الطبيعي أن يروج لذلك أعداء الحزب والراغبون في الإساءة إليه". وما أشبه اليوم بالبارحة!!!
وهكذا يتمكن المتابع والمهتم أن يستخلص أن ذلك التآمر بمختلف أطيافه ومشاربه على حزبنا لم ينحصر فقط في إطار ردة شباط وامتداداتها بل انتقل لأكثر من ساحة بما فيها اليمن، متداخلا مع نشاطات الأجهزة المعادية للبعث، والحاقدة عليه، موظفة بعض الضعفاء ممن كانت لهم هنا أو هناك علاقة بالحزب وليس بتراثه وتاريخه ومنهجه العقائدي كي يروجوا ما عجزت أجهزتهم في تمريره وإيصاله إلى مبتغاها، فحاولت أن تجعل من بعض هؤلاء المأجورين والمستكتبين من قبل بعض مراكز الدراسات لتحقيق ما عجزت عنه المراكز الإعلامية والدراسية التي تشرف عليها أو تمثلها أجهزة ردة شباط 1966م وأجهزة المخابرات العربية والأجنبية، طعناً وتجريحاً بتاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي وقيادته التاريخية، التي ظلت صامدة صمود الجبال الرواسي أمام كل ذلك.
ويأتي محمد جمال باروت وطاقمه المكلف معه للترويج ضد البعث، ومع الأسف تحت إشراف الأخ الأستاذ علي ناصر محمد كمظلة لتمرير اللعبة ضد البعث، وخاصة بعد أن عجزت القوى المتحالفة ضد البعث، الصهيوأمريكية فارسية من تنفيذ مشروعهم الخبيث الرامي إلى اجتثاث البعث في العراق كمدخل لاجتثاثه في بقية أقطار الأمة - إن قدروا. هذه الحيلة تداخلت في المخطط من خلال الدفع ببعض "الصغار" الذين أدلوا بدلوهم ضد البعث عبر صفحات بعض الباحثين ممن ارتضوا لأنفسهم أن يكرروا في كتاباتهم ما سبق ترويج من قبل "ذباب الموائد" التي عُدت للتآمر على البعث والبعثيين، تحت مختلف المسميات.
وأمام هذه الصورة فالأمر يتطلب منا وقفة جادة لتوضيح الحقائق حتى لا نظلم حزبنا ولا نظلم الرعيل الأول من المبشرين والمؤسسين الذين عادوا إلى اليمن بعد المؤتمر القومي التأسيسي في 7 نيسان 1947م في دمشق، وهم كتلة من الحيوية والنشاط والإيمان بالبعث كفكر وأهداف وتنظيم وكلهم حماس واندفاع لتنفيذ ما يمكن تنفيذه من الخطوات الأولى في حقل التنظيم في اتجاه تحقيق الأهداف الكبيرة التي آمنوا بها وجندوا أنفسهم لخدمتها.
ومن المؤسف أن المركز العربي للدراسات الإستراتيجية بإشراف الرئيس علي ناصر محمد دُفع إلى السوق مؤخراُ، وفي يده مخالب تستهدف الحركة القومية بشكل عام والبعث العربي الاشتراكي بشكل خاص، متزامنا مع مخطط التحالف الثلاثي (الصهيوأمريكي فارسي) المستهدف البعث، ونظامه الوطني في عراق القائد صدام حسين الذي يعرفه الرئيس علي ناصر محمد معرفة جيدة، وكانت علاقته به متميزة. ولا ينبغي أن يُفهم كلامنا هنا على أنه دغدغة عواطف، فصدام العرب قد اُغتيل وودع الجميع شهيداً وتحمل جرم اغتياله مجموعة كبيرة من الأنظمة العربية، التي هي اليوم متباكية عليه لأنها أصبحت مهددة من قبل الذين اغتالوه.
الجوهري يستعير مؤسساً جديداً للبعث
إن المؤسف حقا أن تصدر كتب بهذا الحجم الكبير بهدف دخول السوق أكثر من خدمة الحقائق الموضوعية التي لا شك أن الأخ الرئيس علي ناصر قد توخاها من تأسيس هذا المركز. وكنا نعتقد أن هذا المركز سيقدم ما لم يقدمه غيره من المراكز، خاصة وأن هذه الأبحاث تتم تحت إشراف رجل الدولة والحزب والتجربة اليمنية والقومية، وعلاقتها بحركة القوميين العرب، وله دراية بحركة البعث والقومية العربية، مما يجنب مركزه الانحراف والزلل ويبعده عن الجهات التي تحاول تسريب ما تريد تسريبه لمثل هذه المراكز، معتقدين أن خبرة الرئيس علي ناصر ستكون مرجحة حتى تخرج الدراسات متوازنة وتعبر عن رأي مستقل بدلا من أن تكون "مَلَكِية أكثر من المَلِك". أما الأخ الأستاذ شاكر الجوهري فقد استدرج من حيث يعلم أو لا يعلم، وهو الصحفي المحنك والمعروف، إذ وُظِف قلمه في اتجاه بعيد عن رصد الواقع الموضوعي وتسجيل حقائق تاريخية دقيقة عن حزب البعث العربي الاشتراكي في اليمن قبل الثورة وبعدها، وقبل سلطة الجبهة القومية وبعدها، ليغرق- مع الأسف- في كلام غير موضوعي عن حزب البعث العربي الاشتراكي عن مرحلة تأسيسه ومؤسسيه، فيستعير مؤسساً جديداً للبعث بدلاً من الأستاذ أحمد ميشيل عفلق الذي يعرفه جيدا، ولا شك بأنه أيضا يعرف بأن الرئيس حافظ الأسد كان مصراً بعد المؤتمر القومي الثامن للحزب 1965م على إعطاء لقب "القائد المؤسس" للأستاذ ميشيل وأيده في ذلك إبراهيم ماخوس وبقية أعضاء القيادة القومية.
لا شك أن الأستاذ الجوهري لم يطلع إطلاعاً كافياً على المعلومات الدقيقة عن البعث بقدر ما اطلع على ملف المخابرات السورية وجهاز أمن الثورة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سابقاً، وتلك المعلومات التي وزعتها أو سربتها ردة 23 شباط في سوريا التي زجت بالقيادة القومية في السجن وحُكم على الأستاذ ميشيل عفلق غيابياً بالسجن ولا عتب على الأستاذ الجوهري فهو بدون شك متلقي معلومات سواء حول تنظيم البعث في اليمن أو تنظيم وتأسيس الحزب القومي، فجعل من الرعيل المتأخر رعيلاً مؤسساً في اليمن، ومن الأرسوزي مؤسساً لحزب البعث العربي الاشتراكي.
وبالرغم من هذا فإننا سنظل نحمل للأستاذ شاكر الجوهري كل المودة والتقدير مؤكدين بأن حقائق التاريخ ستبقى ثابتة مهما تغيرت الأنظمة وتعددت الأجيال والأقلام. وكنا نتمنى أن توظف الأقلام لصالح الحركة القومية الحقيقية وخاصة في ظل هجمة الاجتثاث التي تستهدف البعث ليس في العراق بل في الأمة كلها. وفي الوقت نفسه نتمنى على الذين كانت جذورهم قومية أن يتريثوا في إعطاء الأحكام وأن يدققوا فيما يكتبون بدلاً من أن يتجهوا نحو الكسب السريع واختطاف الأضواء والتعاطي مع الكتابات والأبحاث كسلعة سوقية يومية مثيرة، تستهوي المتساقطين والمغرضين والرجعيين فيتناغمون- شاءوا أم أبوا- مع الأبواق المعادية للبعث والبعثيين والمروجة للصهاينة والأمريكان والفرس الذين يعبثون اليوم بالعراق ويهددون الأمة كلها، متحالفين سراً وعلانية مع الأمريكان والصهاينة الذين جعلوا من فلسطين ساحة لتنفيذ مآربهم العنصرية الحاقدة، فعملوا ما لم يعمله هتلر.
البعث والمؤتمر علاقة حوار وتحالف استراتيجي
أما ما ورد في كتاب قادري احمد حيدر ص 106، منسوباً إلى عبد الدائم الحداد إذ يقول عن حزب البعث "صراع حول البقاء في أحضان المؤتمر الشعبي العام، أو الإعلان عن استقلال حزب البعث عن المؤتمر الشعبي، وإنه كان يحيى المتوكل، ومجاهد أبو شوارب مع البقاء في المؤتمر الشعبي العام، وجاء احتلال العراق مع فاتحة العقد الأول من القرن الواحد والعشرين في 9 نيسان ابريل 2003م ليزيد من مصاعب تطوره وتعقيدات حركته السياسية والتنظيمية في كل المنطقة العربية، بعد أن أصدر الحاكم الأمريكي للعراق "بريمر" قراره السياسي الفاشي باجتثاث البعث بعد احتلاله مباشرة، وهي اللحظة السياسية التاريخية الثانية في أزمة البعث القومي، الذي ما يزال أثر صدمتها في العراق، وفي جميع مناطق تواجد البعث في المنطقة العربية".
أننا لا ندري ماذا يريد أن يقول الأخ الدكتور عبد الدائم الحداد، وأننا نؤكد أنه لم يكن هناك صراع على الإطلاق حول مسألة العلاقة مع المؤتمر الشعبي العام في أي مرحلة من المراحل وأنه كان هناك إجماع على أن يتم حوار مع المؤتمر الشعبي العام وتحالف إستراتيجي، ولما كان هناك رغبة توحي بأن المؤتمر الشعبي يريد دمج حزب البعث فيه، توقف الحوار عام 1991م، ولم تكن هناك مسألة "اعلان الاستقلال عن المؤتمر الشعبي العام". إذا كانت هذه قناعة الأخ عبد الدائم الحداد فإنما يؤكد أنه لم يكن في جو الحزب ولا متفاعلاً مع سياسته الداخلية ولا الخارجية. إن بعض الطروحات هي فعلاً من قبيل الألغاز، وعلى الذين لم يتعلموا داخل البعث ولم يتفاعلوا مع أهدافه ومبادئه وقيمه وضوابطه أن يفكوا ألغازها.
وسنواصل في العدد القادم بعض الملاحظات ومنها سننتقل إلى دور الرعيل الأول في التأسيس.
المراجع:
1- الأحزاب القومية في اليمن- قادري أحمد حيدر- 2010
2- الأحزاب والحركات القومية العربية- المركز العربي للدراسات الإستراتيجية-
3- حزب البعث العربي الاشتراكي- مرحلة الأربعينيات التأسيسية 1940-1949م - شبلي العيسمي- 1986م
4- حركة القوميين العرب- النشأة- التطور - المصائر- محمد جمال باروت-
5- حزب الطليعة الشعبية بين البعث والاشتراكي- السفير عبد الوكيل السروري- 2007م
6- الصراع في عدن- شاكر الجوهري- 1992م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق