قال سبحانه و تعالى
((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدًمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنً كثيراً منهم فاسقون))
صدق الله العظيم

الجمعة، 14 سبتمبر 2012

نضال البعث في اليمن: لمحات موجزة من تاريخ البعث (6)

لمحات موجزة من تاريخ البعث
 
الحلقة السادسة

نعم لقد كانت قرارات المؤتمر التأسيسي (المؤتمر القومي الأول) دافعا قويا للحزب ولأعضائه كي ينتشر وكي يتوسع أعضاؤه أيضا في علاقاتهم بالجماهير والقوى الشعبية المختلفة والتي كانت مرتكزا أساسيا لانتشار فروعه في الأقطار التي شارك بعض أبنائها في مؤتمره التأسيسي، من أولئك الذين كانوا طلابا في الجامعات وشاركوا في أعمال المؤتمر التأسيسي (المؤتمر القومي الأول)، والذين عادوا إلى أقطارهم وبدأوا في التبشير والتأسيس معا، حيث اعتُبرت المرحلة بعد المؤتمر القومي الأول وقراراته، مرحلة امتداد ما بين 1948 و1958م، كبرفيها حجم الحزب وثقل وزنه الشعبي من خلال نضاله المتواصل في سبيل الوحدة والحرية والاشتراكية، مؤكدا أنه لم يكن حزبا قطريا، بمرتكزاته وأهدافه وتنظيمه، فهو حزبا قوميا يناضل نضالا وحدويا بآفاق إستراتيجية واضعا نصب عينه النضال في سبيل الوحدة والحرية والاشتراكية، ويقول الأستاذ شبلي العيسمي: "ومن الجدير بالذكر أن الحزب بدأ يربط بين الوحدة والحرية والاشتراكية منذ عام 1946م ثم تبلورت بشعار واحد في صيف 1949 وبرز الاهتمام بهذا الترابط وضرورته في مرحلة النمو والتوسع".
لقد كانت عملية انتشار فكر الحزب واتساع نشاطه الفكري والتنظيمي في كل من العراق والأردن ولبنان ومصر وبقية الأقطار العربية انتشارا تداخل فيها النضال من أجل التأسيس والنضال ضد الأنظمة الرجعية والهيمنة الأجنبية والأحلاف والنضال العنيد المتواصل من أجل الوحدة العربية، وكانت وحدة 1958م بين مصر وسوريا تتويجا لنضال الحزب وتفاعله مع الجماهير العربية ليس فقط في سوريا ومصر وإنما في أقطار الأمة التي نشأت فيه فروع واتسعت ساحته وتعمقت علاقاته بالجماهير. لقد كانت المنطقة العربية مليئة بالصراعات القطرية والصراعات الدولية، صراع المعسكرات الغربية والشرقية، كما اتسمت المرحلة بسمات الانقلابات العسكرية في سوريا 1949م وثورة 23 يوليو 1952م والمتغيرات في قطر السودان، كما اتسمت بمشاريع ومعاهدات بريطانية وحلف الدفاع المشترك وحلف بغداد ومشروع دالاس، ومشروع إيزنهاور، كما اتسمت أيضا بالدعوة لسياسة الحياد وعدم الانحياز وقيام ميثاق الضمان الاجتماعي بين السعودية ومصر وسوريا 1955م، واتسمت أيضا بمدٍ ثوري بعد إعلان عبد الناصر تأميم قناة السويس في 26 تموز 1956م وتصاعد ردود الفعل الغربي وبالذات موقف بريطانيا وفرنسا، والكيان الصهيوني للرد على هذا الموقف، وكان أبرز الأحداث بعد حرب السويس هو حدث قيام الوحدة بين القطرين الشقيقين سوريا ومصر في 22 شباط 1958م، ومحاولة الرد على هذا الحدث الكبير بقيام "الاتحاد الهاشمي" كرد فعل عليها، إلا أنه لم يتمكن من الصمود إذ انتهى بقيام ثورة 14 تموز في العراق التي انقَّضَت على النظام الملكي وحلف بغداد.
لقد كانت الفترة الممتدة بين 1949 و1958م فترة غليان جماهيري، إلى جانب ضغوطات غربية داعمة للكيان الصهيوني الذي احتل فلسطين مدعوما من قبل الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية في توسيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين في محاولة للسيطرة عليها ومنع التقارب العربي-العربي ومحاولة الإجهاض على وحدة 1958م ومواجهة المد الثوري العربي بشكل عام. لم يكن الغليان محصورا في المشرق العربي بل كان له امتدادات إلى المغرب العربي، حيث اتسعت رقعة المواجهة بين الاحتلال الفرنسي والحركة الوطنية التونسية التي حملت السلاح ضد الوجود الاستعماري وحققت استقلال تونس عام 1956م، وكذا امتداد ساحة المواجهة المسلحة داخل المملكة المغربية التي انتهت إلى استقلال المملكة المغربية وعودة السلطان محمد الخامس إلى السلطة، في حين اتسعت ساحة المواجهة في ساحة الجزائر وكانت الثورة الجزائرية التي واجهت الاحتلال الفرنسي مواجهة قوية قد أجبرت المحتل على الجلاء بعد تقديم مليون شهيد من أبناء الجزائر الأبطال.
حقا لقد تواصل نضال الحزب منذ المؤتمر القومي الأول وانتشر في أكثر من ساحة، فكان كما يقول الأستاذ شبلي العيسمي: "كالكائن الحي الذي ينمو ويتطور فيرافق ذلك بعض الأزمات والصعوبات، ولكنه يكتسب الكثير من تجاربه، ومن مواطن الخطأ والصواب في مسيرته"......... مواصلا "فالحزب ككائن حي ينمو ويتطور، ويخرج من مرحلة ليدخل في أخرى جديدة... وعندما يبلغ أشده ينبغي أن تنقلب فيه العفوية إلى وعي، والبراءة إلى ذكاء والفوضى إلى نظام، ويجب أن تحل النظرة الموجبة المرشدة له في نضاله، محل الاجتهادات والاختبارات... والنهج الحزبي محل الارتجال اليومي. إننا نعتبر الحزب قد قطع مرحلة التكوين منذ عدة سنين وإن فيه الاستعداد الكامل للتخلص من صفات وعقلية تلك المرحلة...".
لقد واجه الحزب أثناء انتشار فكره وتأسيس فروعه في مختلف الأقطار، واجه محاولات اجتثاث الهوية القومية وطمس اللغة العربية واستئصال التراث العربي، ومحاولات فرض سياسة
التجهيل والعزل السياسي والفكري وترسيخ الأوضاع الإقليمية والقطرية وتجذير قاعدة التشرذم وبذر بذور الفتنة الطائفية والعرقية والعنصرية في أكثر من قطر من قبل الاستعمار وأعوانه وحلفائه من الذين تقلدوا المراكز القيادية وتسلموا السلطة من المحتل، إلى جانب محاولة توظيف الجامعة العربية وميثاقها المعلن عام 1945م والذي اعتبره حزب البعث العربي (أنه صورة ناقصة مشوهة لأماني العرب الحقيقية في الوحدة، لأنه صادر عن حكومات، هي صورة ناقصة ومشوهة لحقيقة الشعب العربي. ولكنه رغم جميع علله ونواقصه قادر على تحقيق بعض الخير للعرب، فيما لو استطاعت الحكومات أن تُخلص له وتفيد من جميع إمكاناته).
لقد واجه البعث في الأقطار الذي نشأ فيها تنظيمه كالعراق وسوريا ولبنان ومصر كافة النشاطات المعادية للوحدة من قبل القوى الرجعية والاتجاهات المناطقية والقطرية والعنصرية وأيضا النشاط العلني للشيوعيين ضد الوحدة وبالذات رفضهم لانضمام العراق إلى وحدة 1958م والتي اعتبروها، كما أشار إليه الأستاذ شبلي العيسمي في كتابه حزب البعث العربي الاشتراكي- مرحلة النمو والتوسع، "أولا:لأنها خطوة في غير وقتها، وثانيا: تتعارض مع مصالح الشعوب العربية الاقتصادية والمالية، وثالثا: تهضم حقوق الأقليات القومية الموجودة في البلاد العربية"، هكذا كان نشاط كل خصوم الوحدة وفي مقدمتهم الأحزاب الشوعية العربية والتي بذلت كل ما تملك من جهد ونشاط لمعاداة الوحدة وعزل ثورة 14 تموز في العراق، وإبعادها عن الانضمام لوحدة سوريا ومصر، ويؤكد الأستاذ شبلي العيسمي "وكانوا بارعين في طرح شعار (اتحاد لا وحدة)، حتى إذا ما زال احتمال الوحدة، انتقلوا لطرح شعار (جمهورية لا إقليم ولا زعيم إلا كريم)، كما ركزوا على شعار تمتين الصداقة مع الاتحاد السوفيتي كرد فعل على شعار الحياد الإيجابي وعدم الانحياز الذي تبناه حزب البعث ودولة الوحدة".
لقد أتت وحدة 1958م قوة دفع جديدة لجماهير الأمة من المحيط إلى الخليج، فكانت كما وصفها حزب البعث في نشرة داخلية قومية "إن قوة الجمهورية العربية المتحدة كنواة: هي بالدرجة الأولى في مقدار تجاوبها مع أفكار وإرادة الشعب العربي في مختلف أقطاره وفي عملها الدائم لبناء نموذج حي تقدمي، يكون مركز إشعاع وجذب لتجميع قوى الثورة العربية وتطويرها، فلن تستطيع الجمهورية أن تؤثر في الثورة العربية كرافعة لشعارات التحرر والوحدة والديمقراطية إلا بنسبة ما تزدهر في ربوعها هذه الشعارات".
لقد كانت جاذبية الوحدة بين جماهير الأمة غير عادية، بل ألهبت مشاعر الجماهير وكادت تُسقط أنظمة رجعية لو لم تبادر القوى الغربية وفي مقدمتها بريطانيا وأمريكا بإنزال قوات عسكرية في لبنان والأردن، الأقطار المجاورة لسوريا والعراق ومصر، في محاولة لحماية تلك الأنظمة ومواجهة المد الثوري بعد ثورة 14 تموز في العراق وحماس الجماهير العربية عقب قيام الجمهورية العربية المتحدة. وتأتي كلمة الأستاذ ميشيل عفلق القائد المؤسس الأمين العام للحزب أصدق تعبير عن مفهوم البعث للوحدة إذ يقول "الوحدة ثورة تاريخية" ...."إنها هي بصورة خاصة المعيار لثورية الأفراد والجماعات، ولثورية أمتنا في هذه المرحلة... وأن ما تحقق للعرب في هذه الظروف هو نتيجة ثورة وبداية ثورة... هذه الوحدة التي هي ثمرة لنضال الماضي ستكون بدورها بذرة قومية ومحركا قويا لثورات متعاقبة وتحقيق هذه الخطوة سيبدل النفسية العربية في كل مكان... وسيكون لها آثار ونتائج سياسية واجتماعية ضخمة عاجلة وآجلة". ويواصل القائد المؤسس قوله "إن هذه الخطوة ما تزال معرضة لأخطار كثيرة، والأخطار المكشوفة هي أخف الأخطار لأنها مكشوفة، والأخطار المخفية هي التي لا تظهر كثيرا بوضوح تام. وأهمها أن يستمر شيء من عقلية التجزئة، وأن ننسج الوحدة بخيوط التجزئة فتتناقض وتفشل"....مواصلا حديثه عن وحدة مصر وسوريا "فلنتعاهد على أن نجعل من هذا النصر الجزئي الذي حققه جميع العرب... على أن يكون فاتحة جديدة لعمل قومي موحد منظم. وأن تكون هذه الوحدة الصغيرة التي يفرح لها العرب في كل مكان. أن تكون النواة للوحدة الشاملة، وأن تنصب أكثر جهودها إلى مساندة ودعم حركات التحرر، وإلى العمل لتوحيد الأقطار المجزأة".
لم تكن عملية التبشير والتأسيس لفروع الحزب في الأقطار إلا ترجمة عملية لمنطلقات فكر البعث وتنظيمه القومي الذي يرى الوطن العربي بمشرقه ومغربه ساحة واحدة، فكان مشروع الحزب الذي قدمه في القطر السوري بعد الوحدة مركزا على: "السعي لجعل الأقطار العربية قادرة على الانضمام لاتحاد سوريا ومصر باعتبارها نواة للوحدة العربية الشاملة وطريقا عمليا لتحقيقها".... مطالبا أيضا "بتحقيق الوحدة الثقافية والاقتصادية والتشريعية بين جميع الأقطار العربية بوصفها عاملا من العوامل المساعدة لتحريرها وتوحيدها".... ثم أضاف "ليس في وحدة سوريا ومصر نكاية لفئة أو تحدٍ لقطر، ما دامت في مصلحة جميع العرب... فلا بد إذن أن يكون للوحدة اتجاه وأن تتجه نحو التحرر والتقدم، فهما طريقها وغايتها وهي لهما الضمانة الكبرى". وهنا نتبين بوضوح أن البعث في نضاله الوطني والقومي كان يتمسك بالمبدئية ويعمل من خلال قناعته بمنطلقاته القومية الواضحة، مصرا على ترسيخ نهجه والسير إلى الأمام في طريق الوحدة العربية الشاملة متجنبا "المحورية" وأساليب التكتيك والمناورة. لقد ترسخت هذه القناعة لدى البعثيين من خلال ما أعلنه الحزب وناضل من أجله وما أعلنته قرارات مؤتمره التأسيسي ومن خلال نضال فروع الحزب في الأقطار التي تمكنت من أن تنشئ فروعا في ظل المواجهات السياسية والحزبية التي عاشتها مرحلتي التأسيس والتبشير والانتشار الممتدة من بداية الأربعين حتى 1958م وما بعدها.
لا شك أن البعض قد يتصور أننا سنمضي في الحديث عن فروع الحزب في مختلف أقطار الأمة من خلال استعراضنا لمرحلة التبشير والتأسيس والانتشار غير أننا أردنا من هذا الاستعراض شد انتباه المتابع أو الحريص على معرفة الجذور والمسيرة كي يتم التواصل بين الأمس واليوم، ومن خلال هذا التواصل سيعرف أننا لم نقصد غير التمهيد الموضوعي للتمكن من قراءة نضال حزب البعث في اليمن في مرحلتي الاستعمار في الجنوب والنظام الكهنوتي المندحر في الشمال، ومرحلتي ثورة السادس والعشرين من سبتمبر والرابع عشر من أكتوبر في مسيرة مترابطة بين الأمس واليوم، حتى نتمكن من توضيح بعض ما رافق مسيرة الحزب من غموض والتباسات أو بعض ما تجنى عليه بعض الكتاب أو بعض الأقلام التي لم تعرف من البعث وتجربته إلا النزر اليسير، بل لم تكن متفاعلة مع مسيرته، ولم تكن مطلعة على أهدافه وسماته الفكرية والنظرية والسياسية بقدر ما التصقت به في لحظة من لحظات الغفلة واحتُسبت على المسيرة، أو حسبت نفسها في مسارها وهي لم تكن كذلك. ثم سنحرص كل الحرص على أن نسمي الأمور بمسمياتها ليعرف القاصي والداني كم ظُلم البعث ممن صنفوا أنفسهم ونُسِبوا إلى مسيرته، وهم يعرفون معرفة جيدة أنهم كانوا بين (مكّلف) أو (متطفل) أو (صاحب غرض)، وتناسى كل هؤلاء أنه في نهاية المطاف لا يصح ولن يصح إلا الصحيح، وأن جوهر الأمور ومعادنها الأصيلة تظل كما هي وأن التطفل والتعرض للمسيرة بهدف الإيذاء والتشويش والتشويه لا يمكن أن يرافقه إلا الفشل الذريع، وأن الحقائق تعلن عن نفسها، كما أن التاريخ لا يمكن أن يغفل الاصطناع أو التصنع والتستر ولا يمكن له أن يتجاهل البراقع التي يُراد بها الغش والخداع والكذب والنفاق والتزلف لهذا أو ذاك، ولا يمكن للتاريخ أن يتجاهل سياسة الدس، والشيطنة، مهما امتلك أصحابها من القدرات في الفذلكة والتلاعب بالألفاظ والمغالطات والتزوير والتستر بالشعارات المظللة، فالحق يبقى والباطل يزهق.
الحديث عن فترة التبشير والتأسيس والانتشار ونشأة البعث داخل الساحة اليمنية سيكون هدفنا في الحلقات القادمة إن شاء الله، وفي حين أننا سوف لن نخرج عن الموضوعية فإننا لن نتجاهل المغالطات التي سيقت من خلال الكتابات التي تناولت الحركة الوطنية أو تحليل دور الحركة القومية بقطر اليمن، سواء كان ذلك من قبل بعض المراكز دراسية أو من قبل أفراد لم تكن لهم علاقة بحزب البعث أو من أشخاص حُسبوا في فترة من الفترات بأنهم صُنفوا ضمن إطار المسيرة أو على هامشها أو من أولئك الذين كُلفوا للإساءة المأجورة لتشويه مسيرة البعث، من خلال سرد المغالطات والكذب بل ومحاولة الاحتيال الواضح خدمة لأعداء الحزب ليس في قطر اليمن وإنما في كافة أقطار الأمة.
المراجع:
في سبيل البعث- الجزء الأول - الكتابات السياسية- ميشيل عفلق.
حزب البعث العربي الاشتراكي- مرحلة الأربعينيات التأسيسية 1940- 1949م- شبلي العيسمي.
حزب البعث العربي الاشتراكي- مرحلة الأربعينيات التأسيسية 1949- 1958م- شبلي العيسمي.
البعث والوطن العربي- الدكتور قاسم سلام.
نضال البعث - الجزء الثالث
نضال البعث - الجزء الرابع
نضال البعث - الجزء السادس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق