قال سبحانه و تعالى
((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدًمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنً كثيراً منهم فاسقون))
صدق الله العظيم

الجمعة، 14 سبتمبر 2012

نضال البعث في اليمن: لمحات موجزة من تاريخ البعث (5)

لمحات موجزة من تاريخ البعث
 
الحلقة الخامسة

لم يأت المؤتمر التأسيسي (القومي الأول) في السابع من نيسان 1947م من فراغ، بل أتى تتويجا لجهود نضالية متواصلة امتدت من عام 1935م والتي عُرفت بمرحلة التبشير الفكري وبلورة المنطلقات والسمات العقائدية "للبعث العربي"، تلتها مرحلة التبشير التنظيمي التي اعتُبِرت امتدادا للتبشير النظري، وقاعدة مهمة لترجمة النظرية البعثية العقائدية الثورية والانقلابية، فكانت أساساً مهما وجادا، أوصلت إلى المؤتمر التأسيسي الذي فتح الطريق واسعا أمام مبادئ البعث ومنطلقاته الفكرية والتنظيمية، ومكنته من خوض المعارك المختلفة في الأقطار العربية التي بدأت بذوره - كحزب عربي شعبي - تزهر، وساحته تتسع في الأوساط السياسية والاجتماعية "كحزب عربي شامل تؤسَس له فروع في سائر الأقطار العربية، وهو لا يعالج السياسة القطرية إلا من وجهة نظر المصلحة العربية العليا"، وهنا نجد الأستاذ شبلي العيسمي يوضح في الجزء الأول من كتابه (حزب البعث العربي الاشتراكي مرحلة الأربعينات التأسيسية) قائلا: (بعد أن تبلورت أفكار الحزب وأهدافه الأساسية. وبعد أن فرض وجوده السياسي والشعبي عبر مسيرته النضالية في السنوات السابقة، كان من الطبيعي أن يتداعى أعضاؤه لعقد مؤتمر تأسيسي، يضعون فيه تلك الأفكار والأهداف بصيغتها النهائية، ويحددون إستراتيجية الحزب وأسلوبه في العمل، ويوضحون سياسته الداخلية والخارجية والاقتصادية والاجتماعية.... وفي صباح اليوم الرابع من نيسان 1947م حضر إلى دمشق أكثر من مائتي عضو "217" من الذين مكنتهم ظروفهم الخاصة من الحضور، وكان من بينهم بعض طلاب جامعيين، من الأردن ولبنان والعراق واليمن، وهذا العدد نصف مجموع عدد الأعضاء، .... وعندما تكامل وصولهم إلى مقهى الرشيد الصيفي في شارع 29 أيار في تمام الساعة العاشرة، هتفوا بصوت واحد "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" ... إيذانا بافتتاح الجلسة الأولى للمؤتمر).
لقد كان هذا المؤتمر ترسيخا لمنهج البعث الفكري والتنظيمي، إذ وضح القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق القائد المؤسس للحزب منطلقات البعث النظرية وأبعادها التنظيمية التي أتى الدستور والنظام الداخلي الذي أقره المؤتمر ليؤكد عليها وجاءت التقسيمات الحزبية ترجمة عملية لتلك النظرية التي أكدت على عملية التسلسل الإداري في ساحة قومية واحدة "فروع، شعب، فرق، منظمات رأسية، خلايا"، مقرونة بتحديد صريح وواضح" لشروط الانتساب والعضوية".
ومن خلال التوقف الجاد والمسئول أمام قرارات المؤتمر التأسيسي الفكرية والسياسية والاجتماعية والتنظيمية يستطيع المتابع والباحث معرفة الأهداف البعثية والسمات النظرية التي ميزته عن الأحزاب التي سبقته أو رافقت مسيرته منذ 1935م حتى 1947م وما تلا ذلك، وقد تجلى هذا في كافة الأبعاد ومضامين القرارات التي وجدنا من المناسب تسجيلها هنا ليتمكن الجميع الإطلاع والاستنتاج والاستفادة منها، إذ أنها لم تأتِ للبعثيين فحسب بل لكل المناضلين من أبناء الأمة العربية من محيطها إلى خليجها، وقد تركزت هذه القرارات في مضامين كبيرة (فكرة عربية اشتراكية انقلابية وعمل واحد شعبي نضالي) وقرارات أكدت على:
1- إرادة العرب هي أن يعيشوا أحرارا في دولة واحدة، وأن يجدوا جميع الأمم تتمتع مثلهم بالحرية.
2- إن الهدف الأول من وجود العرب السياسي، هو صيانة مصلحة عربية واحدة، تعتبر نقطة البداية في كل خطوة يخطوها العرب في نضالهم السياسي، للتحرر من الاستعمار ولإنشاء كيان وطني عربي واحد بين شعوب العالم.
3- العرب أمة واحدة حرة، لها حقها الطبيعي في أن تحيا في دولة واحدة، وأن تكون حرة في توجيه مقدراتها.
4- يعتبر حزب البعث العربي الوطن العربي وحدة اقتصادية سياسية لا تتجزأ، ولا يمكن لأي من الأقطار العربية أن يستكمل شروط حياته منعزلا عن الآخر .
5- يعتبر البعث الأمة العربية وحدة روحية ثقافية تزول جميع الفوارق القائمة بين أبنائها بيقظة الوجدان العربي.
6- إن الأمة العربية ذات مزايا خاصة، تجلت في نهضاتها المتعاقبة واتسمت بخصب الحيوية والإبداع.
7- يعتبر الحزب ازدهار الوطن العربي متوقفا على حرية الفرد، ومدى الانسجام بين تطوره وبين المصلحة القومية.
8- يؤكد أن حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة لا يمكن لأي سلطة أن تنتقصها.
9- إن الاستعمار عمل إجرامي، يكافحه العرب ويسعون إلى مساعدة الشعوب المناضلة في سبيل حريتها. وإن الإنسانية مجموع متضامن في مصلحته، مشترك في قيمه، يضمن التعاون بين الأمم والرفاهية والسلام والسمو فيه.
10- إن حزب البعث حزب اشتراكي يؤمن بأن الاشتراكية ضرورة تتيح وحدها للشعب العربي تحقيق إمكاناته ونموه المضطرد.
11- إن حزب البعث العربي حزب شعبي، يؤمن بأن السيادة للشعب، وإنه وحده مصدر كل سلطة، وإن قيمة الدولة ناجمة عن انبثاقها عن إرادة الجماهير، كما أن قدسيتها متوقفة على مدى حريتهم في اختيارها.
12- إن حزب البعث حزب انقلابي، يؤمن بأن حياة العرب التقدمية الجديدة، لن تكون إلا بانقلاب شامل على الواقع الفاسد، يشمل جميع مناحي الحياة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية ونضال في سبيل التحرر والوحدة.
13- إن المرأة العربية تتمتع بحقوق المواطن كلها، وإن الحزب يناضل في سبيل رفع مستواها.
14- أقر المؤتمرون في المادة الثالثة من سياسة الحزب الخارجية، أن العرب دوما في صف الحرية والتقدمية، ضد الاستعمار والرجعية في العالم.
15- أقر المؤتمرون في سياسة الحزب الاقتصادية أن الثروة الاقتصادية في الوطن العربي للأمة.
16- أكد المؤتمرون أن التوزيع للثروة في الوطن العربي غير عادل، ولذلك يُعاد النظر في أمرها وتوزع بين المواطنين توزيعا عادلا. وأن الملكية والإرث حقان طبيعيان ومصونان في حدود المصلحة القومية، كما نصت المادة الخامسة في دستور الحزب "إن المؤسسات ذات النفع العام وموارد الطبيعة الكبرى ووسائل الإنتاج الكبير، ملك الأمة وتديرها الدولة مباشرة". وقد أقر المؤتمرون تحديد الملكيات الزراعية والصناعية الصغيرة، بشكل يمنع استثمار الأفراد، ويتناسب مع المستوى الاقتصادي للبلاد.
17- نصت المادة العاشرة على أن يؤسس مصرف قومي واحد يصدر عنه النقد الذي يسنده الإنتاج القومي، كما نصت المادة الحادية عشر على أن الدولة تشرف إشرافاً مباشرا على التجارتين الداخلية والخارجية، لإلغاء الاستثمار وحماية الإنتاج القومي.
18- أقر المؤتمرون في سياسة الحزب الاجتماعية أن الأسرة خلية أساسية في الأمة، وإن النسل أمانة في عنق الدولة، وإن البداوة حالة اجتماعية ابتدائية، تشل نمو الأمة وتقدمها، ولذلك فتحضير البدو ضرورة قومية. كما أقر المؤتمرون أن العمل إلزامي، وأن الدولة تضمن لكل فرد عملا لائقا، وتسن تشريعا عادلا للعامل وتكفل التأمين الاجتماعي. كما أقر المؤتمرون في سياسة الحزب التربوية أنه من الضروري طبع كل مظاهر الحياة بطابع قومي عربي، يحفز الأمة إلى أن تتطلع إلى مستقبل مجيد، وإن التعليم من وظائف الدولة، وإنه مجاني. وإن إنشاء مدارس مهنية مجانية، وإنشاء جامعات عربية وتوسيعها واجب من واجبات الدولة، وجعل اللغة العربية رسمية فيها.
لقد أكدت قرارات المؤتمر التأسيسي على أهمية أن تتخذ الأنظمة العربية خطوات عملية في سبيل الوحدة، وهي:
أ- توحيد القوى العسكرية في الأقطار العربية.
ب- توحيد التمثيل الخارجي.
ج- إلغاء جوازات السفر بين البلاد العربية.
د- إلغاء الحواجز الجمركية.
19- أقر المؤتمرون التمسك بالنظام الجمهوري وتقويته، لأنه النظام الأصلح لممارسة الشعب حقوقه..حقا لقد كان المؤتمر الأول لحزب البعث العربي حدثا تاريخيا مهما في حياة أعضاء الحزب الذين تيقنوا أن (الطبقة الحاكمة في البلاد العربية، بحكم تركيبها وتربيتها ومصالحها، عاجزة، إن لم نقل كارهة، عن تحقيق التحرر القومي التام، وتحقيق الوحدة بين أجزاء أرض العرب "البعث 11 آذار 1947")، وأن التعاون الذي حققه ميثاق الجامعة العربية هو تعاون قاصر قد يتحقق مثله بين دول غريبة متباينة في اللغة والعنصر والتاريخ، وبعيدة عن بعضها في الإقليم والقارة. فالميثاق في مجموعه، إقرار لحالة التجزئة الراهنة في العالم العربي وتوكيد للنزعات الشخصية في الفئات الحاكمة، وإذعان من دول الجامعة لسياسة الأمر الواقع الذي سهّل عليها التراجع أمام مطامع الأجنبي ضد بعض أجزاء الوطن العربي، كاعترافها بعدم بلوغ فلسطين طور النضج السياسي، وإهمالها شأن الأجزاء العربية الأخرى في أفريقيا الشمالية وغيرها. وسكوتها عن الخطر الصهيوني وعن اغتصاب تركيا للواء الاسكندرون- نشرة داخلية 12 نيسان 1945م- (فالواقع الذي يتضح يوما بعد يوم هو أن الجامعة، ليست خطوة في طريق الوحدة العربية بل عثرة. إن ميثاق الجامعة العربية صورة ناقصة مشوهة لأماني العرب الحقيقية في الوحدة، لأنه صادر عن حكومات، هي صورة ناقصة مشوهة لحقيقة الشعب العربي. ولكن هذا الميثاق بالرغم من علله ونواقصه، قادر على تحقيق بعض الخير الأكيد لبلاد العرب، فيما لو استطاعت الحكومات أن تخلص له وتفيد من جميع إمكاناته "افتتاحية البعث 12 آب 1946").
لقد أتت قرارات المؤتمر التأسيسي لترد على كافة السلبيات في محيط الأمة التي رافقت مرحلتي التبشير الفكري والتبشير والتمهيد التنظيمي، ولترد على كافة النواقص التي أحاطت بالمرحلة في ظل الاحتلال الأجنبي لهذا أو ذاك من الأقطار، أو الأنظمة الجديدة التي استلمت هذا أو ذاك من الأقطار إثر الاستقلال وجلاء قوات الأجنبي، ولتؤكد على أن التحرر الحقيقي والاستقلال الصادق والجاد يكمنان في السعي الجاد لتحقيق وحدة الأمة العربية والخروج من شرنقة الانكماش وسياسة التجزئة والانفصال، وفي الرغبة الجادة في سبيل تحقيق الوحدة، وفي التمرد على الهيمنة والنفوذ الأجنبي عليها، الذي كان مهيمنا أو مخيما على معظم الأقطار العربية. كما تكمن قوة الأمة العربية في العمل الجاد على إزالة الحواجز وتجاوز الحدود التي فرضها الأجنبي على الأمة العربية، وأن النضال الموحد داخل الساحة القومية كفيل بإنقاذ الوطن العربي من جرائم وبراثن الاستعمار وتحريره من مآسي الفقر والجهل والإقليمية والطائفية وسياسة الاستئثار، وأن البديل للتجزئة والتخندق والتقوقع داخل الحدود القطرية هو إنشاء جبهة شعبية عربية أو جامعة عربية شعبية تتخطى الحواجز والحدود التي فُرضت على الأمة من قبل الأجنبي.
هذه بعض من قرارات المؤتمر التأسيسي (المؤتمر القومي الأول) التي لا شك كانت دافعا قويا للحزب ولأعضائه كي ينتشر وكي يتوسع أعضاؤه أيضا في علاقاتهم بالجماهير والقوى الشعبية المختلفة والتي كانت مرتكزا أساسيا لانتشار فروعه في معظم أقطار الأمة، وهذا ما سنتناوله في حلقاتنا القادمة.

المراجع:
في سبيل البعث- الجزء الأول - الكتابات السياسية- ميشيل عفلق.
حزب البعث العربي الاشتراكي- مرحلة الأربعينيات التأسيسية 1940- 1949م- شبلي العيسمي.
البعث والوطن العربي- الدكتور قاسم سلام.
الإحياء نت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق