أشرنا الى انشطة وفعاليات البعثيين الأوائل في حضرموت وتناغم تلك الفعاليات والنشاطات مع ديناميكية حركة التبشير والتأسيس للبعثيين في عدن، التي كانت اجواؤها مهيأة اكثر للعمل الوطني والنقابي والحزبي والسياسي العام، بحكم موقعها الجغرافي وتواجد الرعيل الأول من القيادات السياسية والفكرية والتنظيمية للحركة الوطنية والقومية والاسلامية التاريخية، والتي كانت بؤرة الارتكاز لتأسيس الحركة الوطنية والنقابية والسياسية كما كانت ساحة التضاد والتآلف والائتلاف والجدل بمختلف صنوفه السياسية والاجتماعية، وأبعاده الوطنية والقومية.
لقد مثلت عدن ساحة التهيئة والبناء والإعداد والمواجهة التاريخية الوطنية بأبعادها القومية، وقد كانت كلمات الشهيد محمد احمد نعمان واضحة حينما أكد على أن عدن كانت ملتقى الجميع ومنطلق الجميع في عملية التهيئة والإعداد والمواجهة إذ قال: "أما حركتنا، فأعني بها الطليعة العربية في اليمن، المتمثلة في العمل السلمي، والعنيف للخلاص من التأخر الذي يسيطر على حياتنا، بسبب الرجعية الوطنية، والحكم الأجنبي"............. مضيفا "ومن جهة أخرى فقد كان الإجماع منعقدا عند المستنيرين يومها بأن خلاص الشمال من محنته هو سبيل خلاص الجنوب، يستوي في هذا تفكير أبناء مدينة عدن كآل لقمان وخليفة او ابناء الإمارات كالسيد محمد علي الجفري والسيد سالم الصافي والسيد شيخان الحبشي، حيث كان كل هؤلاء يساندون حركة حزب الأحرار اليمنيين ويشتركون مع القادة الشماليين في شن الحملات على الأوضاع في الشمال.......... وإذا كان قد برز دور أبناء عدن في تلك الفترة بوضوح، فقد كانت هناك عوائق عن أن يعلن يومها عن نشاط الاخوة الجفري وشيخان والصافي، ولهم جهود كبيرة يشكرون عليها ولا يصح إغفالها أو غمطها مهما طرأ على الموقف من تبدلات مؤسفة." (1)
إن هذا الموقف يؤكد اليوم اهمية العودة الى التاريخ بموضوعية بحثا عن الحقائق وتسجيلها كما هي وبعيدا عن لعبة الهوى وخدمة اصحاب الغرض للخروج بتاريخ يجاري المواقف السياسية والصراعات الحزبية وخدمة طرف على حساب اطراف اخرى، كان لهم حضور ربما اكثر من اصحاب الغرض او الكاتب او المستكتب نفسه. وقد كان الرفيق والاخ العزيز الدكتور احمد قائد الصائدي عند تقديمه لكتاب الاخ والرفيق السفير عبدالوكيل اسماعيل السروري(2) إذ يقول: "على هذا النحو أراني أنظر إلى كل الروايات والمذكرات الشخصية التي يقدمها المعاصرون ممن عايشوا الأحداث التاريخية المعاصرة، مشاركة أو متابعة، على أنها مادة تاريخية، وإن خالفت معرفتي وتصوراتي، يمكن أن يستفيد منها المؤرخ، في رسم صورة أكثر قربا من صورة الحدث، كما وقع. وذلك بعد إعمال منهجه التاريخي، تمحيصا ونقدا، في كل تفاصيل الرواية، صحيحا، ومنطقيا ومعقولا. ويبقى رسم صورة الحدث، بالدقة المطلقة، وكما حدث فعلا، مطلبا مستحيل التحقيق. من هنا ندعو ونكرر الدعوة، لكل المشاركين في الأحداث المعصرة، إلى تقديم رواياتهم ومذكراتهم، وعلى كل منا أن يتقبلها، جميعها، قبولا حسنا دون حساسية، متحلين بالتسامح والتفهم، تجاه كل ما يغاير معارفنا وتصوراتنا. فبذلك نخدم الحقيقة ونقترب منها، قدر الإمكان، ونخدم تاريخنا لأجيالنا القادمة بأكمل صورة ممكنة".
وإذا كنا في هذه الحلقة قد بدأنا حديثنا عن حركة الأحرار اليمنيين التي تأسست عام 1936م في شمال الوطن وأصبحت "حزب الأحرار" وبدأت عملها المنظم (44-48 في عدن) فإننا أردنا أن نعيد الانتباه إلى واقع موضوعي سبق ما تلاه من الحركات الوطنية ونشأتها بمختلف شرائحها، والحركة القومية، البعث، حركة القوميين العرب، في ساحة عدن، وقد تابع الجميع هذه النشأة كما تابع نشأة الجمعية الاسلامية عام 1949م التي ضمت في إطارها عددا من المفكرين والسياسيين البارزين مثل محمد علي الجفري، الذي سيؤسس حزب رابطة الجنوب العربي فيما بعد، الشيخ محمد بن سالم البيحاني، الشيخ علي باحميش، الشيخ علي بازرعة، الشيخ علي اسماعيل تركي، سالم الصافي، الشيخ ياسين راجمنار، عبدالله بن صالح المحضار، علي غانم كليب، ومن ضمن هؤلاء شارك سالم الصافي وعلي غانم كليب في تأسيس حزب الرابطة (3). وكان قد خرجت عن خط هذه الجمعية بعض الأسر الارستقراطية التي اسست الجمعية العدنية سنة 1950م والتي عرفت عام 1954م باسم حزب المؤتمر الشعبي والحزب الوطني الاتحادي وحزب الأمة وكذلك حزب الأحرار الديمقراطي وحزب الشعب السياسي. (3) وكل هذه المسميات دعم إنشااها بهدف تفتيت الشعب وتشتيت العمل الوطني وتعميق التفرقة والصراعات الهامشية خدمة لأهداف الاحتلال البريطاني الذي اصبحت ربيبة له.
فإذا كانت عدن قد مثلت البؤرة المركزية التي تبلورت فيها أبعاد ومعاني الثورة الوطنية بآفاقها الاستراتيجية التحررية والقومية، فقد كانت أيضا الحاضنة لميلاد الحركة العمالية، كما تكاملت فيها نشأة الحركة القومية ايضا.
والجدير بالذكر ان قضية الوحدة اليمنية كانت محور الجميع، ومرتكز وهدف كل أطراف العمل الوطني والقومي، الجادة والمؤمنة، بوحدة الأمة وتحررها، من هذا المنطلق نفهم ابعاد السعي الجاد للدعوة "لوحدة حضرموت" (3) آنذاك، الذي بذل من اجل تحقيقها من قبل شيخان الحبشي وعلي بن عقيل والرعيل الاول من البعثيين جهدا كبيرا حيث كانوا يرون اهمية وحدة السلطنتين القعيطية والكثيرية، كنهج حضاري يقرب المسافات، بعيدا عن الهيمنة الاستعمارية.
ويأتي حزب رابطة ابناء الجنوب العربي في مقدمة الأحزاب التي تكونت بين 1949 و1952م في عدن، فكانت أما او " مشتلا" للكثيرين من الذين توزعوا بين صفوف الحركة الوطنية والديمقراطية بمختلف فصائلها، القومية والماركسية والوطنية والنقابية. وبالرغم مما قيل ويقال عن برنامج ومنهج ودستور الرابطة، إلا أن الموضوعية تستدعي التقييم الجاد داخل الظرف المحيط وبعيدا عن الأحكام الصارمة والمسبقة، ويكفي أن نقف وقفة مسئولة عند توضيح المرحوم محمد علي الجفري وهو يعلن أهداف حزبه الذي يرأسه قائلا: "إن هدف الحزب القريب من أجل الوحدة الكبرى هو "وحدة شعب الجنوب الكبير.... اي شعب اليمن الكبير تحت حكومة واحدة مستقلة تقدمية" .
ويكفي أيضا أنه في ذلك الوقت رفض "الانقسام والانفصالية والعائلية والمذهبية،" مؤكدا إيمانه "بالقومية العربية والوحدة الشاملة والحركة العربية الموحدة" كما وقفت الرابطة موقفا حاسما في وجه "انفصالية الجمعية العدنية" ونادت بوحدة اليمن الجنوبي ووقفت في وجه محاولات القضاء على عروبة المستعمرة، وضد هجرة الأجانب إلى عدن. وعارضت مشروع، بريطانيا لتوحيد المنطقة-الاتحاد- لأنه معاد للقومية العربية ولا ينبثق من إرادة الشعب، ولأنه وسيلة لإبقاء سيطرة بريطانيا على المنطقة" ويكفي أيضا أن نعرف ان المندوب السامي البريطاني- تريفاسكس- قد وصف الرابطة بأنها معادية للاستعمار بتعضيد من سلطان لحج وان اعضاءها كانوا ينتشرون بين الجنود والموظفين والمدرسين يحرضونهم ضد بريطانيا. ولهذا قامت بريطانيا بحظر نشاط الرابطة بعد عام 1956م وصادرت صحيفتها وقامت بنفي رئيس الرابطة وامينها العام من عدن واغلاق فروع الحزب في لحج ويافع والعوالق، كما أغلقت عددا من الاندية ومنها نادي الشباب الثقافي في المكلا، واعتقلت عددا من الرجال الذين اعتقدت انهم موالون للرابطة (3).
فقد كانت الرابطة بنظر المرحوم الاستاذ عبدالله باذيب بعد انضمامه إليها "فقد كان الحزب هو المنبر الوحيد الفعال في ذلك الوقت الذي يعمل من أجل التجمع بدلا من التجزئة، ويعلن عداءه للاحتلال والنفوذ البريطاني".
وبالرغم من المهاترات السياسية والإعلامية التي رافقت مسيرة نشأة الحركة الوطنية ونموها في عدن فإن نقاط اللقاءات الإيجابية كان كثيرة، ونعتقد أن طبيعة النشاطات وعلاقاتها بالوعي الوطني والقومي آنذاك كانت لها دور في التقارب والتباعد، وكذلك طبيعة الحوارات الوطنية المحكومة بظروف متوترة ومشحونة بالانفعالات ومحاطة بكثافة المناورات البريطانية وعملائها الذين تنوعوا في عدن والسلطنات والإمارات والمشيخات، وبغض النظر عن ما يدور حوله الجدل فمن الموضوعية بمكان ان نستفيد مما ورد على لسان الاخ العزيز قادري احمد حيدر إذ يقول "الشيء الأكيد والذي يتفق مع حقائق التطور الاقتصادي والاجتماعي، ومع وقائع التحولات الايديولوجية والسياسية، هو ان رابطة ابناء الجنوب العربي، إنما شكلت موضوعيا وسياسيا، وتاريخيا، كرد فعل لدور ونشاط "الجمعية العدنية" التي انحصر دورها في رفع شعار "عدن للعدنيين" و"القومية العدنية"، وبالعمل من أجل ربط المدينة عدن بالكومنولث والتنسيق مع المستعمر على قاعدة تشريع أنظمة وقوانين تفصل أبناء عدن عن بقية أبناء اليمن، بمن فيهم أبناء المحميات الشرقية والغربية" (4). ويواصل الاستاذ قادري احمد حيدر "إن حزب رابطة أبناء الجنوب العربي هو اول تنظيم وطني جنوبي قام وتأسس في جنوب اليمن، وأعلن بصراحة أنه يناضل من أجل إنهاء الاستعمار البريطاني من جميع أجزاء تلك البلاد، إنهاء الاستعمار والتجزئة، وإنهاء حكم السلاطين، وبذلك قفزت رابطة أبناء الجنوب العربي بالوعي الوطني إلى مرحلة أعلى سياسيا، وطنيا "جزئيا، ونسبيا"، وأعلنت خطابات الرابطة بوضوح وقوفها سياسيا ضد الاستعمار وأعوانه، وعملائه وضد دعاة الانفصال لعدن عن المحميات والجنوب العربي عموما، ومن معطف الرابطة الكبير خرج الكثير من القيادات الوطنية والقومية والماركسية" (4). ويضيف الاستاذ قادري حيدر: "وانصافا للحقيقة السياسية التاريخية، وتأصيلا للنقد الموضوعي العقلاني التاريخي، فإن العناصر المختلفة التي دخلت رابطة أبناء الجنوب العربي منذ لحظة التأسيس، او في سياقها، لم تدخل جميعها على أنها تيارات ايديولوجية، سياسية بقدر ما كان دخولها منذ لحظة النشأة والتأسيس أو فيما بعد، باعتبار ان الرابطة كانت هي الإطار الوحيد الجامع الذي يستوعب هذا العدد والتنوع والاختلاف، وفي سياق العمل السياسي والفكري والتنظيمي تشكل ما يشبه التجمعات او التيارات (بعثيين، حركة قوميين عرب، ماركسيين)، وبكل ثقة يمكننا هنا القول أن رابطة ابناء الجنوب قد تمكنت وبجدارة طيلة سنوات النصف الأول من الخمسينات من تولي زمام قيادة الحركة السياسية والوطنية في جنوب الوطن بما فيه تأييد حركة الأحرار اليمنية في شمال الوطن" (4).
إننا لسنا بحاجة إلى خوض جدل تلك المرحلة المليئة بالأحكام التعسفية الصاعقة والعاطفية أحيانا وأحيانا أخرى المحملة بترسبات آنية، والغارقة بالحساسيات المختلفة، مع غياب لحظات الوعي التاريخي المستوعب لما يدور داخل المحيط من تقاطعات وتناقضات ومكايدات تتداخل فيها التقديرات الشخصية الآنية والاستفزازات الاجتماعية بمختلف درجاتها.
بل ويكفي كما يقول الاخ قادري احمد حيدر:"ويحسب لرابطة ابناء الجنوب انها اول تنظيم سياسي يتمكن من الامتداد في الاستراتيجية الجغرافية الجنوبية كلها، ويخرج من قوقعة العمل السياسي والحزبي، داخل مدينة عدن (4).
ونجد هنا انه لا داعي لإسقاط او استيراد المبررات في مماحكات التاريخ دون الغوص في حيثياته وتقصي المعادلات الداخلية والخارجية داخل او حول كل حركة سياسية سواء من خلال آفاقها الاستراتيجية او من خلال خططها العملية في مواجهة واقع معين، بإمكانيات محددة وقدرات وممكنات واضحة. فلكل زمان دولة ورجال ولكل ظرف حسابات وتقديرات وتكتيكات مرسومة في مخيلة هذا او ذاك من القادة، وفي برامج ومناهج معلنة في إطار حسابات تحكمها الظروف الآنية المرئية والمتوقعة من قبل مصممي الاستراتيجيات ومتخيلي التكتيكات المحددة لظروف معينة وفق حسابات بعيدة عن مقولة فرويد "لا ينضج المرء حقا الى أن يقتل والده" اذا علينا ان نقيس الحركة بالمليمترات ووفق حساب الأبعاد خارج إطار تقييم الآخرين اليوم بعيدا عن ساحة معاصرة الحدث والتعامل معه في حينه وليس اليوم.
إن الحديث عن الحركة الوطنية في اليمن الطبيعية محكوم بتلك اللحظات وآفاقها وأبعادها وبعقلية تلك الظروف المحيطة بالقادة والأعضاء والأنصار والأصدقاء والخصوم في آن واحد. وسنواصل الحديث عن الحركة الوطنية في الأعداد القادمة حتى يأتي حديثنا عن الحركة القومية تتويجا للمراحل السابقة وامتدادا متواصلا لدور الحركة القومية وطنيا وقوميا.
المراجع:
1- الفكر والموقف الاعمال الكاملة- محمد احمد نعمان
2- حزب الطليعة الشعبية
3- الصراع في عدن- شاكر الجوهري
4- الاحزاب القومية في اليمن النشأة- التطور- المصائر- قادري احمد حيدر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق