قال تعالى

قال سبحانه و تعالى
((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدًمت لهم أنفسُهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكنً كثيراً منهم فاسقون))
صدق الله العظيم

الجمعة، 14 سبتمبر 2012

لمحات موجزة من تاريخ البعث (15)

لمحات موجزة من تاريخ البعث
 
الإحياء نت
الدكتور قاسم سلام 
الحلقة الخامسة عشر
 


ملاحظات على بعض المغالطات
والتخرصات ضد البعث ومؤسسيه
كنا قد أشرنا في الحلقة الماضية أننا سنتناول في الحلقات القادمة دور الرعيل الأول المؤسس ثم الرعيل الثاني المتابع والرعيل الثالث المواصل للمسيرة الأولى والمتتبع لخطوات التأسيس والإعلان الرسمي بعد أن أصبح للحزب وجودٌ وتأثيرٌ في الأوساط العمالية والطلابية والنقابات المختلفة، ومن المفيد هنا الحديث عن المرحلة الأولى وهي مرحلة التبشير والتأسيس التي ارتبطت بجو المؤتمر التأسيسي القومي الأول للبعث وقراراته التي كانت بمثابة بذرة تتبلور كي تشق طريقها إلى النور ممتدة إلى أبعادها التي تغطي الوطن الكبير، متفاعلة مع كل الذين تفاعلوا مع معانيها الكبيرة وآفاقها الإستراتيجية. لقد كان البعثيون كما يقول الأستاذ شبلي العيسمي في كتابه (حزب البعث العربي الاشتراكي مرحلة الأربعينيات التأسيسية- 1940-1949م) "وفي مطلع الأربعينيات، التقى حولها- يقصد هنا فكرة البعث أو بذرة البعث- , أفراد قلائل لم يتجاوزوا أصابع اليد عددا. وراحوا يعملون معا على أساس من التنظيم العفوي البسيط. وما هي إلا سنوات معدودة حتى تكاثروا وأصبحوا عشرات فمئات. والحق أنهم وجدوا في أفكار البعث ضالتهم المنشودة. ولم يكونوا هم غرباء عنها، ولم تكن هي غريبة عنهم. بل كانت معبرة عما يشعرون به ويتحسسون بضرورته. ذلك أن هذه الأفكار ما كان لها أن تؤثر فيهم، وتفعل في نفوسهم فعل السحر. لو لم تعبر بصدق وعمق، عن تطلعاتهم ومشاعرهم الوطنية والقومية". هذه الفقرة تصبح قاعدة معبرة عن كل البعثيين في كل الأقطار وليس فقط في القطر الذي تأسس فيه حزب البعث.
البعثيون الأوئل
نعم يتحدث الأستاذ شبلي عن القاعدة العامة التي حكمت كافة البعثيين الذين تحملوا مسئولية استقبال البذرة ونقلها إلى محيطهم الوطني والقومي بحماس وتفاعل يكاد يفوق الوصف، ويضيف في هذا المجال الأستاذ شبلي في نفس المصدر سابقا "لقد كان البعثيون الأوائل، وأكثريتهم الساحقة من الطلبة، يمارسون نشاطهم، ليس بنشر أفكارهم والتبشير بها وإثارة المناقشات حولها فحسب، وإنما بالمشاركة الفعلية في التظاهرات، والمناسبات الوطنية المختلفة. ولقد استطاعوا على قلة عددهم، أن يلفتوا الأنظار إلى وجودهم، ودعوتهم الجديدة، من خلال سلوكهم، ومناقشاتهم المتميزة بالإخلاص والصدق، وحرارة الإيمان". مضيفا، "ولا أبالغ إذا قلت... كان الواحد منهم إذا تحدث عن مبادئه أو تحرك من أجلها، تحس وكأنه صوفي، واثق من سلامة دعوته. قلبه عامر بالأمل والتفاؤل، نفسه مترعة بالثقة المطلقة. ويتكلم بحماس المؤمنين ويتحرك باندفاع الثوريين. يعمل للمستقبل البعيد بصبر ونفس طويل، لا أثر فيه للوصول والاستعجال، يتصرف كما لو كان مسئولاً وحده عن تحقيق أهدافه الضخمة، ولا يبالي بساخر أو مستهزئ، بل يضاعفان فيه الهمة والعزيمة. آلام النضال ومتاعبه، تزيده عناداً وصموداً في عقيدته، فتصبح هذه بلحمه ودمه وجزءاً من كيانه، توجه سلوكه وتؤثر بقوة في مسيرته ومجرى حياته. ثقته بنفسه وبأمته تامة عظيمة، وبيقينه بصدق مبادئه وقيادته، مطلق وعميق. وكانت الروح الرفاقية، القائمة على الأخوة، والمحبة، قوية نامية، بعيدة عن آثار الانتهازية والمناورة وتسقُط الأخطاء وتجميعها لأغراض ذاتية".
عهد البطولة
أما القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق رحمة الله عليه فقد وصف مرحلة التبشير والتأسيس "بعهد البطولة"، وصف الجيل الجديد في مقال له عن عهد البطولة إذ يقول: " إن صفحة الضعفاء والنفعيين والجبناء، يجب أن تُطوى، وتحل محلها صفحة جديدة، يخطها الذين يجابهون المعضلات العامة، ببرودة العقل ولهيب الإيمان، ويجاهرون بأفكارهم ولو وقف ضدهم أهل الأرض جميعاً"، مضيفا في وصفه للشبيبة الذين يتهيئون لحمل رسالة البعث بقوله: "لهم صدق الأطفال وصراحتهم، وحياتهم لا فرق بين باطنها وظاهرها، قساة على أنفسهم، قساة على غيرهم، غايتهم الحقيقة، لا أنفسهم، وإذا تبينوا الحق في مكانٍ، أنكر من أجله الابن أباه وهجر الصديق صديقه". وفي مكان آخر يقول: "نحمل رسالة لا سياسة، إيمانا وعقيدة، لا نظرياتٍ وأقوال" مواصلا حديثه عن الجيل الجديد حيث يقول: "العمل ليس عادياً آنياً، بل تاريخي، وليس سياسة بل رسالة، لأنه مكلف بتصحيح انحراف عصور عديدة ماضية، وتهيئة انبعاث للأمة، يؤتي أُكله في عصور عديدة مقبلة. وليس ينجح فيه جهد أفراد وأسلوب سطحي، وإعداد مرتجل، فلا بد إذاً من جيل بكامله مهيأ لأن يبدع في النضال حتى يستمر فيه إلى نهايته.... ومن العبث أن ننتظر ظهور هذا الجيل إذا لم تظهر فكرته" (نفس المصدر السابق- ص 87).
ثم يأتي دستور البعث ليؤكد في مقدمته إن (الحزب فكرة "مبادئ" وروح "إيمان" تتجسدان في أفراد وتنتشران في جمهور.... وإن فكرة حزب البعث قد نبتت من حاجات العرب لتمثل أمانيهم وتهيئ لهم سبيل الانبعاث).
الخلط والمغالطة والتزوير
ومما لا شك فيه أن الذين استوعبوا هذه المعاني وتفاعلوا معها من البعثيين الأوائل اندفعوا إلى أمام يبشرون ويؤسسون ويخوضون المعارك الكبيرة والصغيرة المرتبطة بأهدافهم وشعاراتهم، متحلين بالصبر والمثابرة، من أجل بناء كيانهم الحزبي في هذا أو ذاك من أقطار الأمة، وهكذا تواصل النضال في كل ساحة من ساحات الأمة بطرق وأشكال قد تكون مختلفة في الأساليب ولكنها متفقة وملتقية في الأهداف، وكان طابع عملهم النضالي عاماً بينما التنظيمي خاص وفي منتهى السرية والدقة لأنهم يواجهون تحديات كبيرة وقوى معادية مختلفة.
بالرغم من هذه الصورة الجميلة التي رافقت مرحلة التبشير والتأسيس والانطلاق الأول لتوسيع دائرة الانتشار والحركة التنظيمية البعثية في أكثر من قطر. إلا أننا وجدنا محاولات للنيل من هذه المرحلة وذلك بعد إطلاعنا على ما كتبه معظم الذين حاولوا أن ينصبوا أنفسهم مؤرخين نيابة عن البعث أو أوصياء عليه، وجدنا كثرة الخلط والمغالطة والتزوير، حيث تناولوه وفق أمزجتهم، فكتبوا ما يحلوا لهم أو للجهات التي أوحت لهم بتحريك أقلامهم وتجميد عقولهم وملكاتهم البحثية - إن كانوا في تعداد الباحثين- إذ أن الباحث إذا لم يتقصى الحقائق بدقة ويتابع أطراف الموضوع من مختلف زواياه فلا يمكن أن يكون باحثاً، نعم قد تكون هناك جهات أوحت لهم أو طلبت منهم أو كلفت أجهزتها المختلفة تزويدهم بمعلومات "مطبوخة"، "مغربلة"، تريد منهم أن "يعبروها" أو يتفننوا في اختراع تاريخ مفصل للبعث ومركب وفق قياسات المطابخ التي أعدَت المعلومات، فيخرجون بثوبهم المفصل والمحكم من قبل ردة 23 شباط عام 1966م، أو بثوب مرقع تفننت في إخراجه أجهزة المخابرات المصرية والعربية وكل القوى الحاقدة على البعث، التي رأت فيه خطراً عليها وعلى معظم الأنظمة العربية الكرتونية، مستعينة بدهاقنة مصممي حلقات الإعلام الصهيوني المعادي للأمة وكل ما هو عربي تقدمي ثوري معادي للصهاينة، والاستعمار الغربي والإستراتيجية الأمريكية، المعادية للوحدة العربية، والنهضة العربية، والتقدم العربي.
ساحة مفتوحة للتآمر
نعم بعد إطلاعنا على هذا الخلط الهائل والعجيب المعبر عن ساحة مفتوحة للتآمر على البعث عبر أجهزة إعلامية وغير إعلامية للتشكيك به وأهدافه في الوحدة والحرية والاشتراكية وشعاره أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، وتمادي بعض الباحثين وتجاوز حدود الموضوعية وظهور أشباه الباحثين الذين ينطبق عليهم المثل الشعبي القائل "........ " وخاصة بعد أن كبر البعث وتوسعت نشاطاته في الوطن الكبير بعد قيام وحدة مصر وسوريا واستلامه السلطة في كل من سوريا والعراق وتوقيع اتفاقية الوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسوريا عام 1963م، فتصاعدت حمى التآمر عليه وعلى أفكاره وقيمه ونظريته، مكثفة لعبة التضليل والخداع والغش والتزوير ضد مبادئه وطروحاته وأهدافه وشعاراته.... هكذا تعددت القوى المعادية بعد أن تنبهت إلى خطورة منهجه العقائدي المعادي للرجعية والاستعمار والاستغلال والصهيونية والعمالة والتردد والعنصرية والعرقية والشوفينية.... تنبهت كل هذه القوى وكما يقول الأستاذ شبلي العيسمي في نفس المصدر السابق: "تنبهت إلى خطره ونشطت ضده كل القوى المعادية لشعاراته، وكثرت الكتابات والبحوث عنه، ولكن بعضها تضمن الطعن والتجريح بتاريخه ونضاله، في حين أن بعضها الآخر عمد إلى التشويه والتحريف حينا، وإلى التزوير والاختلاق حينا آخر. ومن الأمثلة البارزة على ذلك هو الإدعاء بأن الأستاذ زكي الأرسوزي هو المؤسس الأول و الحقيقي لحزب البعث العربي الاشتراكي. ونظرا إلى رواج هذه المقولة بفعل الدعاية الإعلامية القوية التي قام بها حكام دمشق بعد انقلابهم على الحزب وقيادته التاريخية في 23 شباط 1966م... فقد رأينا من المفيد توضيحها على الوجه التالي:
1- الأستاذ زكي الأرسوزي من مواليد اللاذقية عام 1900م، درس الفلسفة في فرنسا وعاد للتدريس في أنطاكيا، وانتمى إلى عصبة العمل القومي التي كانت من أبرز المنظمات السياسية في الدعوة إلى القومية والوحدة منذ تأسيسها عام 1933م إلى حين انتهاء الحرب العالمية الثانية. قاد الحركة الوطنية العربية في لواء الاسكندرون في النصف الثاني من الثلاثينات، وكان مناضلاً صلباً وصادقاً في مقاومة الاستعمار الفرنسي ومعارضة سلخ اللواء عن سوريا لضمه إلى تركيا. وعندما حصل الضم بالقوة والتآمر، غادر اللواء إلى المدن السورية الداخلية مع عدد من المواطنين الشباب.
2- لم يكن معروفا لدى الرأي العام السوري في مرحلة الأربعينيات أن هنالك تنظيما سياسيا بقيادة الأستاذ الأرسوزي، اللهم إلا قيادته للحركة الوطنية اللوائية التي دعت إلى التمسك بعروبة اللواء كجزء من سوريا العربية، ثم إصداره جريدة العروبة لخدمة هذه الحركة، ومما يؤكد عدم إنشائه لأي حزب سياسي ما ورد في المجلد الأول من مؤلفاته الكاملة من أنه "في هذه الفترة فكر بتأسيس حزب سياسي يطلق عليه اسم البعث. والفكرة وإن لم تتبلور وتتحول إلى تنظيم سياسي، فقد كانت لها نتائج طيبة... ففكرة العروبة اتضحت وأخذت شكلا شعبيا". وهكذا يتبين بوضوح أن المسألة بقيت في حيز التفكير ولم تتحول إلى تنظيم سياسي.
3- الكتاب الذي نشره في وقت كانت فيه أفكار حزب البعث في طور التبلور هو (العبقرية العربية في لسانها) عام 1943م ويبحث في نشأة اللسان العربي ومدلول الكلمات وكيف أن اللغة العربية "هي التي تكون الأمة وتعبر عن وجودها، وتكشف عن عبقريتها وفلسفتها وهي باعث الوعي القومي عند وعيها".... وآراؤه في هذا الكتاب وفيما كتبه في وقت لاحق متأثرة بالاتجاه القومي الوحدوي لعصبة العمل القومي وبالحركة القومية العروبية في اللواء، وكذلك بدراسة الفلسفة وتأثره ببعض المفكرين والفلاسفة الأوروبيين كـ هنري برغسون، وهيغل بأفكاره المثالية، مع شيء من الصوفية والغيبية.
مفهوم القومية والأمة والإسلام بين عفلق والأرسوزي
4- ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن ثمة فرقاً وخلافات سياسية بين التراث الفكري والسياسي لحزب البعث العربي الاشتراكي، التي لخصناها في الفصل الثالث، وبينما طرحه الأستاذ الأرسوزي حول مفهوم القومية والأمة والرسالة والحرية والوحدة.... ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، إن الحزب أيد ثورة مايس 1941م في العراق بينما اعتبرها الأرسوزي حركة انجليزية مشبوهة- وبينما رأى ميشيل عفلق في الإسلام "تجدد العروبة وتكاملها ويمثل وثبتها إلى الوحدة والقوة والرقي" فإن زكي الأرسوزي يعتبر الجاهلية هو العصر الذهبي للعرب كما أن مفاهيمه عن الأمة والرسالة والخلود مشوبة بنضرة غيبية وفوقية وفلسفية ميتافيزيقية، مع نزعة عرقية وعنصرية لم تستطع حجبها بعض المفاهيم الإنسانية لديه. كما أنه يؤمن بدور الزعيم أو البطل المنقذ للأمة، في حين أن البعث يؤمن بالجماهير وطلائعها الثورية المنظمة كأداة لتحقيق أهدافه القومية الإنسانية.... هذا فضلاً عن إهمال الأرسوزي للاشتراكية كهدف أساسي مرتبط بالوحدة والديمقراطية...
5- وإن آراؤه السياسية تمتزج بنزعة فلسفية مثالية وأفكار غيبية أحيانا أو ذات شطحات يطغى فيها التصوف والخيال والمبالغة أحياناً أخرى، كما أنها لم تستهدف بناء حركة سياسية منظمة، كما كان الشأن بالنسبة لمؤسسي حزب البعث.
6- في أول اجتماع للقيادة القومية بعد المؤتمر القومي الثامن للحزب في آذار- مارس عام 1965م واعتذار الأستاذ ميشيل عفلق عن منصب الأمين العام للحزب، اقترح حافظ أسد إعطاءه لقب "القائد المؤسس" وكان أول من أيده إبراهيم ماخوس. فلو كان الأستاذ الأرسوزي هو المؤسس الحقيقي للبعث فهل يخطر على بال حافظ اقتراح كهذا؟ وهو الذي تعهد فيما بعد بحماسة شديدة بمحاربة هذا اللقب وإبراز الأرسوزي كمؤسس للبعث؟"
محاولة بائسة غبية
ومما لا شك فيه إن انتصار البعث واتساع ساحاته وانتشار أفكاره دفع أعدائه القدامى والجدد، الظاهرين والمخفيين، إلى اللجوء إلى أساليب جديدة لمواجهة البعث وقيادته التاريخية والشرعية، مستنجدين جميعهم بردة 23 شباط التي أفتت لكل القوى المعادية بتبني لعبة العبث بتاريخ الحزب كمدخل لاجتثاث جذوره التاريخية في محاولات مكثفة "لعقد قران بين بعثهم وبين زكي الأرسوزي"، في محاولة بائسة غبية لفسخ العقد التاريخي بين البعث ومؤسسيه التاريخيين، ويأتي هذا في سياق ما قامت به ردة شباط من إغراق للمكتبات والأسواق بالمطبوعات المختلفة بهدف التضليل والتحريض والمغالطة، معتقدة أنها الوسيلة الوحيدة التي تستطيع من خلالها اجتثاث البعث من خلال اجتثاث مؤسسيه الحقيقيين، وتبني الأرسوزي إعلاميا على كافة المستويات ومحاولة تحريف نظرية حزب البعث من خلال استبدالها بهلامية الأرسوزي والغانم وسامي الجندي ومحمد الزعبي، وغيرهم ممن وظفوا في إطار مخطط الردة الشباطية، هذه المحاولات التي قام ويقوم بها بعض الباحثين للنيل من البعث وتاريخه ومؤسسيه هي أبعد من ملامسة القمر أو استحالة الصعود إلى السماء بحبال ردة 23 شباط 1966م، التي تبنت هؤلاء في سياق لعبة الأجهزة للتآمر على البعث ومحاصرته وخلط الأوراق حول تراثه ونظريته وأهدافه وشعاراته.
البعث والإحياء العربي
إنها لعبة الأنظمة المعزولة أي كانت وأينما كانت وكيفما كانت، ولنعد مرة أخرى إلى مغالطة تاريخية أخرى حول البعث والإحياء العربي: إذ يقول الأستاذ شبلي العيسمي:-
1- "على إثر العدوان الفرنسي على دمشق في أيار 1945م أُعجب الدكتور وهيب الغانم بمواقف حزب البعث فأرسل برقية من اللاذقية يضع نفسه مع بعض الشباب تحت تصرف الحزب، وفي العام التالي قام الأستاذ ميشيل عفلق ومعه الدكتور كمال مشارقة بزيارة نشاط حزبي إلى عدة مدن ومنها حمص وحماة وحلب ثم اللاذقية، حيث التقى مع هؤلاء المتأثرين بالأستاذ الأرسوزي، غير أن ارتباطهم بالحزب ولاسيما الذين كانوا بدمشق قد تم على أساس فردي وبأوقات متفاوتة وليس كجماعة أو كتلة متميزة. وهذا يعني أن الإدعاء بوجود تنظيمين أحدهما جماعة الإحياء العربي بدمشق والثاني جماعة البعث العربي في اللاذقية، اندمجا بعد التفاوض وشكلا حزب البعث العربي الاشتراكي، هو ادعاء غير صحيح ومدسوس على تاريخ الحزب لأغراض سياسية وطائفية رخيصة.
2- لو كان لهذا الادعاء جانب من الحقيقة، فلماذا انتمى أبناء محافظة اللاذقية إلى الحزب بشكل فرادى وبأوقات متباينة قبل المؤتمر التأسيسي، ولماذا كانت البيانات والبرقيات السياسية باسم البعث العربي توقع منذ 1943م من قبل ميشيل عفلق وصلاح البيطار، ولم يكن فيها اسم أو ذكر للغانم أو الأرسوزي أو أي من المتأثرين بهما- ولماذا كان الطلب المقدم من وزارة الداخلية في تموز 1945م من أجل الحصول على ترخيص رسمي باسم حزب "البعث العربي" موقعاً من ميشيل عفلق وصلاح البيطار ومدحت البيطار، وفيه إشارة إلى "إن حركة البعث نشأت منذ عدة سنوات" ولم يكن من بين الموقعين لهذا الطلب أحد ممن ادعوا أنهم كانوا مجموعة ذات شأن واندمجت بالحزب. ولماذا لم يكن من هذه المجموعة المزعومة أحد في قيادة الحزب قبل المؤتمر التأسيسي مع أن جلال السيد كان في هذه القيادة قبل المؤتمر ولم يكن مقيما بدمشق؟ ولماذا تحدث الأستاذ عفلق في جلسة افتتاح المؤتمر عن مراحل نشاط الحزب والصعوبات التي واجهته، ثم تحدث عند البدء، بمناقشة مواد الدستور عن منطلقاته الفكرية التي استند إليها ولم يذكر في كلامه تصريح أو تلميح لقضية اسمها جماعة الأرسوزي وأفكاره!
ولماذا اختير ميشيل عفلق بالإجماع عميداً للحزب بنهاية المؤتمر التأسيسي، ولماذا اختارت اللجنة التنفيذية صلاح البيطار أميناً عاماً للحزب ولم تختر الغانم كممثل لمجموعة مندمجة إذا صح الادعاء المزعوم! ولماذا لم تظهر من هؤلاء اعتراضات على ما كان يكتبه ميشيل عفلق والبعثيون الأوائل حول منطلقات البعث النظرية والفكرية وبالشكل الذي تظهر فيه آثار المفاهيم والمنطلقات الفكرية للأستاذ الأرسوزي. ولو جاز لم انتموا إلى حزب البعث ممن تأثروا بأفكار الأستاذ الأرسوزي، أن يدعوا بأنهم أسسوا حزب البعث، مع أن نسبتهم أقل من 10% من أعضاء المؤتمر التأسيسي، لحق لحزب الاستقلال أن يدعي بأنه المؤسس الحقيقي لحزب البعث (في العراق) لأن معظم البعثيين الأوائل فيه كانوا منتمين إلى ذلك الحزب مع أنه لم يخطر ببال أحد شيء من ذلك.
أهداف وغايات
3- من المغالطات أيضا هو الادعاء بأن وهيب الغانم هو الذي ضع المواد الاقتصادية والاجتماعية في دستور الحزب في حين أن اللجنة التي وضعتها كانت مشكلة من ثلاثة هم الدكتور عبد المنعم الشريف والمحامي عبد الرحمن المارديني وعضو ثالث، ولم يكن الغانم فيها. هذا مع العلم أن الأفكار والنقاط الأساسية المتصلة بالاشتراكية والسياسة الاقتصادية والاجتماعية التي أقرها المؤتمر التأسيسي كانت مدونة قبل سنوات من انعقاد المؤتمر التأسيسي وقبل تشكيل اللجنة التحضيرية، ولم يكن للغانم أي جهد في وضعها. وكانت متداولة باسم "أهداف وغايات" ونُشرت فيما بعد في العددين الثالث والرابع من صحيفة البعث عند صدورها عام 1946م".
باروت و ذباب الموائد
بعد هذا التوضيح الدقيق والموضوعي نجد الأستاذ شبلي العيسمي يقول "وبعد فإننا إذ نأسف لهذا التزوير المتعمد في تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي، نستطيع القول مع وافر الثقة والاطمئنان، إن كل ما أُثير في هذا الصدد كان بدوافع سياسية وطائفية رخيصة يستهدف النيل من مؤسسي البعث الحقيقيين وإضفاء الشرعية على حكام دمشق بعد انقلابهم العسكري على الحزب وقيادته التاريخية والشرعية في 23 شباط 1966م، وكان من الطبيعي أن يروج لذلك أعداء الحزب والراغبون في الإساءة إليه". وما أشبه اليوم بالبارحة!!!
وهكذا يتمكن المتابع والمهتم أن يستخلص أن ذلك التآمر بمختلف أطيافه ومشاربه على حزبنا لم ينحصر فقط في إطار ردة شباط وامتداداتها بل انتقل لأكثر من ساحة بما فيها اليمن، متداخلا مع نشاطات الأجهزة المعادية للبعث، والحاقدة عليه، موظفة بعض الضعفاء ممن كانت لهم هنا أو هناك علاقة بالحزب وليس بتراثه وتاريخه ومنهجه العقائدي كي يروجوا ما عجزت أجهزتهم في تمريره وإيصاله إلى مبتغاها، فحاولت أن تجعل من بعض هؤلاء المأجورين والمستكتبين من قبل بعض مراكز الدراسات لتحقيق ما عجزت عنه المراكز الإعلامية والدراسية التي تشرف عليها أو تمثلها أجهزة ردة شباط 1966م وأجهزة المخابرات العربية والأجنبية، طعناً وتجريحاً بتاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي وقيادته التاريخية، التي ظلت صامدة صمود الجبال الرواسي أمام كل ذلك.
ويأتي محمد جمال باروت وطاقمه المكلف معه للترويج ضد البعث، ومع الأسف تحت إشراف الأخ الأستاذ علي ناصر محمد كمظلة لتمرير اللعبة ضد البعث، وخاصة بعد أن عجزت القوى المتحالفة ضد البعث، الصهيوأمريكية فارسية من تنفيذ مشروعهم الخبيث الرامي إلى اجتثاث البعث في العراق كمدخل لاجتثاثه في بقية أقطار الأمة - إن قدروا. هذه الحيلة تداخلت في المخطط من خلال الدفع ببعض "الصغار" الذين أدلوا بدلوهم ضد البعث عبر صفحات بعض الباحثين ممن ارتضوا لأنفسهم أن يكرروا في كتاباتهم ما سبق ترويج من قبل "ذباب الموائد" التي عُدت للتآمر على البعث والبعثيين، تحت مختلف المسميات.
وأمام هذه الصورة فالأمر يتطلب منا وقفة جادة لتوضيح الحقائق حتى لا نظلم حزبنا ولا نظلم الرعيل الأول من المبشرين والمؤسسين الذين عادوا إلى اليمن بعد المؤتمر القومي التأسيسي في 7 نيسان 1947م في دمشق، وهم كتلة من الحيوية والنشاط والإيمان بالبعث كفكر وأهداف وتنظيم وكلهم حماس واندفاع لتنفيذ ما يمكن تنفيذه من الخطوات الأولى في حقل التنظيم في اتجاه تحقيق الأهداف الكبيرة التي آمنوا بها وجندوا أنفسهم لخدمتها.
ومن المؤسف أن المركز العربي للدراسات الإستراتيجية بإشراف الرئيس علي ناصر محمد دُفع إلى السوق مؤخراُ، وفي يده مخالب تستهدف الحركة القومية بشكل عام والبعث العربي الاشتراكي بشكل خاص، متزامنا مع مخطط التحالف الثلاثي (الصهيوأمريكي فارسي) المستهدف البعث، ونظامه الوطني في عراق القائد صدام حسين الذي يعرفه الرئيس علي ناصر محمد معرفة جيدة، وكانت علاقته به متميزة. ولا ينبغي أن يُفهم كلامنا هنا على أنه دغدغة عواطف، فصدام العرب قد اُغتيل وودع الجميع شهيداً وتحمل جرم اغتياله مجموعة كبيرة من الأنظمة العربية، التي هي اليوم متباكية عليه لأنها أصبحت مهددة من قبل الذين اغتالوه.
الجوهري يستعير مؤسساً جديداً للبعث
إن المؤسف حقا أن تصدر كتب بهذا الحجم الكبير بهدف دخول السوق أكثر من خدمة الحقائق الموضوعية التي لا شك أن الأخ الرئيس علي ناصر قد توخاها من تأسيس هذا المركز. وكنا نعتقد أن هذا المركز سيقدم ما لم يقدمه غيره من المراكز، خاصة وأن هذه الأبحاث تتم تحت إشراف رجل الدولة والحزب والتجربة اليمنية والقومية، وعلاقتها بحركة القوميين العرب، وله دراية بحركة البعث والقومية العربية، مما يجنب مركزه الانحراف والزلل ويبعده عن الجهات التي تحاول تسريب ما تريد تسريبه لمثل هذه المراكز، معتقدين أن خبرة الرئيس علي ناصر ستكون مرجحة حتى تخرج الدراسات متوازنة وتعبر عن رأي مستقل بدلا من أن تكون "مَلَكِية أكثر من المَلِك". أما الأخ الأستاذ شاكر الجوهري فقد استدرج من حيث يعلم أو لا يعلم، وهو الصحفي المحنك والمعروف، إذ وُظِف قلمه في اتجاه بعيد عن رصد الواقع الموضوعي وتسجيل حقائق تاريخية دقيقة عن حزب البعث العربي الاشتراكي في اليمن قبل الثورة وبعدها، وقبل سلطة الجبهة القومية وبعدها، ليغرق- مع الأسف- في كلام غير موضوعي عن حزب البعث العربي الاشتراكي عن مرحلة تأسيسه ومؤسسيه، فيستعير مؤسساً جديداً للبعث بدلاً من الأستاذ أحمد ميشيل عفلق الذي يعرفه جيدا، ولا شك بأنه أيضا يعرف بأن الرئيس حافظ الأسد كان مصراً بعد المؤتمر القومي الثامن للحزب 1965م على إعطاء لقب "القائد المؤسس" للأستاذ ميشيل وأيده في ذلك إبراهيم ماخوس وبقية أعضاء القيادة القومية.
لا شك أن الأستاذ الجوهري لم يطلع إطلاعاً كافياً على المعلومات الدقيقة عن البعث بقدر ما اطلع على ملف المخابرات السورية وجهاز أمن الثورة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سابقاً، وتلك المعلومات التي وزعتها أو سربتها ردة 23 شباط في سوريا التي زجت بالقيادة القومية في السجن وحُكم على الأستاذ ميشيل عفلق غيابياً بالسجن ولا عتب على الأستاذ الجوهري فهو بدون شك متلقي معلومات سواء حول تنظيم البعث في اليمن أو تنظيم وتأسيس الحزب القومي، فجعل من الرعيل المتأخر رعيلاً مؤسساً في اليمن، ومن الأرسوزي مؤسساً لحزب البعث العربي الاشتراكي.
وبالرغم من هذا فإننا سنظل نحمل للأستاذ شاكر الجوهري كل المودة والتقدير مؤكدين بأن حقائق التاريخ ستبقى ثابتة مهما تغيرت الأنظمة وتعددت الأجيال والأقلام. وكنا نتمنى أن توظف الأقلام لصالح الحركة القومية الحقيقية وخاصة في ظل هجمة الاجتثاث التي تستهدف البعث ليس في العراق بل في الأمة كلها. وفي الوقت نفسه نتمنى على الذين كانت جذورهم قومية أن يتريثوا في إعطاء الأحكام وأن يدققوا فيما يكتبون بدلاً من أن يتجهوا نحو الكسب السريع واختطاف الأضواء والتعاطي مع الكتابات والأبحاث كسلعة سوقية يومية مثيرة، تستهوي المتساقطين والمغرضين والرجعيين فيتناغمون- شاءوا أم أبوا- مع الأبواق المعادية للبعث والبعثيين والمروجة للصهاينة والأمريكان والفرس الذين يعبثون اليوم بالعراق ويهددون الأمة كلها، متحالفين سراً وعلانية مع الأمريكان والصهاينة الذين جعلوا من فلسطين ساحة لتنفيذ مآربهم العنصرية الحاقدة، فعملوا ما لم يعمله هتلر.
البعث والمؤتمر علاقة حوار وتحالف استراتيجي
أما ما ورد في كتاب قادري احمد حيدر ص 106، منسوباً إلى عبد الدائم الحداد إذ يقول عن حزب البعث "صراع حول البقاء في أحضان المؤتمر الشعبي العام، أو الإعلان عن استقلال حزب البعث عن المؤتمر الشعبي، وإنه كان يحيى المتوكل، ومجاهد أبو شوارب مع البقاء في المؤتمر الشعبي العام، وجاء احتلال العراق مع فاتحة العقد الأول من القرن الواحد والعشرين في 9 نيسان ابريل 2003م ليزيد من مصاعب تطوره وتعقيدات حركته السياسية والتنظيمية في كل المنطقة العربية، بعد أن أصدر الحاكم الأمريكي للعراق "بريمر" قراره السياسي الفاشي باجتثاث البعث بعد احتلاله مباشرة، وهي اللحظة السياسية التاريخية الثانية في أزمة البعث القومي، الذي ما يزال أثر صدمتها في العراق، وفي جميع مناطق تواجد البعث في المنطقة العربية".
أننا لا ندري ماذا يريد أن يقول الأخ الدكتور عبد الدائم الحداد، وأننا نؤكد أنه لم يكن هناك صراع على الإطلاق حول مسألة العلاقة مع المؤتمر الشعبي العام في أي مرحلة من المراحل وأنه كان هناك إجماع على أن يتم حوار مع المؤتمر الشعبي العام وتحالف إستراتيجي، ولما كان هناك رغبة توحي بأن المؤتمر الشعبي يريد دمج حزب البعث فيه، توقف الحوار عام 1991م، ولم تكن هناك مسألة "اعلان الاستقلال عن المؤتمر الشعبي العام". إذا كانت هذه قناعة الأخ عبد الدائم الحداد فإنما يؤكد أنه لم يكن في جو الحزب ولا متفاعلاً مع سياسته الداخلية ولا الخارجية. إن بعض الطروحات هي فعلاً من قبيل الألغاز، وعلى الذين لم يتعلموا داخل البعث ولم يتفاعلوا مع أهدافه ومبادئه وقيمه وضوابطه أن يفكوا ألغازها.
وسنواصل في العدد القادم بعض الملاحظات ومنها سننتقل إلى دور الرعيل الأول في التأسيس.
المراجع:
1- الأحزاب القومية في اليمن- قادري أحمد حيدر- 2010
2- الأحزاب والحركات القومية العربية- المركز العربي للدراسات الإستراتيجية-
3- حزب البعث العربي الاشتراكي- مرحلة الأربعينيات التأسيسية 1940-1949م - شبلي العيسمي- 1986م
4- حركة القوميين العرب- النشأة- التطور - المصائر- محمد جمال باروت-
5- حزب الطليعة الشعبية بين البعث والاشتراكي- السفير عبد الوكيل السروري- 2007م
6- الصراع في عدن- شاكر الجوهري- 1992م.
الإحياء نت

لمحات موجزة من تاريخ البعث (14)

لمحات موجزة من تاريخ البعث
 
الإحياء نت
الكتور قاسم سلام 
الحلقة الرابعة عشر
 


مدخل لتَتَبُع لمحات موجزة من تاريخ
حزبنا داخل الساحة اليمنية
كنا قد تناولنا في الحلقات الماضية "لمحات من تاريخ البعث" بشكل سريع نبذة موجزة عن الحركة الوطنية وتداخل فعلها ونشاطها مع الحركة القومية والحركة الشيوعية متجنبين في ذلك الخوض في التفاصيل لأن عملية من هذا النوع تتطلب الغوص في الأعماق إذا لم نقل حفر القبور، وتتبع تفاصيل التفاصيل التي لا نعتقد أننا نهدف من وراء استعراضنا إلى ذلك، بقدر ما أردنا أن نعيد إلى الأذهان مسألة في غاية الأهمية وهي التمييز بين من يكتب التاريخ للتاريخ، ومن يكتب التاريخ لهدف محدد يخصه في إطاره الضيق مستبعدا الآخرين داخل الساحة، أو محاولا القفز فوق الواقع إلى واقعه هو الذي يريد الآخرون أن يقبلوا به، مسقطين من حساباتهم الشركاء في الهم الوطني والقومي والإنساني. إننا نحرص في التعامل مع تسجيل موجز للأحداث التعامل مع التاريخ كفنٍ لرصد الحقائق وليس كقاضٍ يجزم في القضايا التي تعرض عليه دون السماع لوجهة نظر أطراف القضية المعنيين بالحدث أو بالحوادث المحيطة.

كتابة التاريخ
إننا نؤمن أن التاريخ عندما يوَظَف لخدمة الصراع والمنتصرين فيه لم يعد تاريخا وإنما قرارات تملى على الآخرين في سياق تصفية الحسابات، وهنا يمكننا أن نستدعي ما قاله الرفيق العزيز عبدالوكيل إسماعيل السروري، وهو يستعرض "تاريخ البعث بصورة خاصة"، إذ يقول:"من العجيب والغريب أن من أدار الصراع لصالحه وكسب المعركة هو الذي يكتب التاريخ على هواه ويلغي الآخرين ويساعده في ذلك كثٌر من المنتفعين والمنافقين. أليس من الصواب والمنطق أن نعتمد الصدق والموضوعية والتجرد من الأهواء إذا كنا فعلا نرغب في تدوين تاريخ البدايات الأولى لحزب البعث وتاريخ الثورة اليمنية والحركة الوطنية إجمالاً؟؟ لإزالة كل التشويهات التي علقت بها. ونعطي لكل الرواد دون استثناء حقهم التاريخي وننصف الحركة الوطنية جميعها بما فيها حزب البعث العربي الاشتراكي (....) أليس من دواعي الأمانة والموضوعية أن يتاح لكل فصائل العمل الوطني الفرصة لتدوين تاريخ مراحل نشأتها وكفاحها في مختلف المراحل النضالية بعيدا عن الضغط والوصاية إذا كنا نريد الوصول إلى كتابة التاريخ، خالٍ من التشويه والتزوير".


التجني على البعث والبعثيين
ونحن هنا نؤكد على هذه الملاحظة معتبرين أن معظم ما كُتب عن حزب البعث العربي الاشتراكي منذ نشأته الأولى وحتى عام 1966م قد تعرض للظلم إذا لم نقل للمغالطة والتجني بل والخوض من قبل بعض الأقلام فيما لا تعلم، ونضيف أن معظم ما قيل كان نوعاً من التخمين والرجم بالغيب، وهنا وقع الظلم والتجني على البعث والبعثيين سواء الرعيل الأول المؤسس أو الرعيل الثاني المتابع في المراحل الأولى حتى 1966م، أي بعد ردة 23 شباط في سوريا، حيث تداخلت الألوان واختلطت المعايير وتضاعفت المغالطات والتجني ليس فقط على الرعيل الأول في الحزب القومي وفرعه القطري وإنما كان نوعاً من القفز فوق الواقع لأن الذين أرَّخوا تناسوا تماما أن البعث كتنظيم كان محكوما بضوابط السرية الصارمة في تشكيلاته وتحركه وطنياً وقومياً، وإن كان فكره بات معروفاً للجميع ومستهدفاً من قبل قوىً رجعية رأت في فكر البعث وتنظيمه خطراً على وجودها، وقوىً إسلامية تتعامل مع البعث بمنظور دولي كما تعاملت معه الماركسية اللينينية بالإضافة إلى الأحزاب القطرية المناطقية التي كانت تتبنى أفكاراً ونظريات وخطط ومشاريع ضد الوحدة العربية والاشتراكية وتدعو إلى التناغم مع منطلقات سايكس- بيكو الرامية إلى تجزئة الوطن العربي وإخضاعه للوصاية والولاية الأجنبية، فكانت بدعوتها لمحاور تشبه تقسيمات سايكس بيكو مثل الهلال الخصيب، وادي النيل، المغرب العربي والجزيرة والخليج. فوجدت في نظرية البعث وشعاره خطراً أيضاً على مخططها، لأن الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة في شعار البعث تلغي التمحور في المحيط العربي من المحيط إلى الخليج العربي، وفي أهدافه في الوحدة والحرية والاشتراكية خطرٌ على الأنظمة التي فُرضت في تلك المرحلة كأداة لخدمة المخططات الاستعمارية الكبرى التي استهدفت استنزاف الثروة العربية والمحافظة على التخلف والسعي الحثيث لاجتثاث الهوية العربية وإفراغ الهوية الإسلامية أيضاً من معانيها وأبعادها الحقيقية وجعلها اسطوانات مشروخة تُوَظف لخدمة المخططات الصهيونية العالمية والاستعمار الغربي بامتداداته إلى الإستراتيجية الأمريكية التي تفاعلت مع الأطماع والطموحات الصهيونية أكثر من الغرب الاستعماري بكل فلسفاته ومخططاته.


التقاطع الفكري
وهنا نستطيع أن نجزم أنه لم تتعرض أية حركة وطنية قومية للظلم ومحاولة الابتزاز والتزوير مثلما تعرضت له حركة البعث العربي الاشتراكي منذ تأسيسه وحتى قيام الوحدة بين سوريا ومصر ثم حدوث الردة الشباطية في سوريا عام 1966م، وصولا إلى احتلال العراق عام 2003م وإسقاط نظامه الوطني القومي الاشتراكي تكاملاً مع المخطط المعادي للبعث والبعثيين في الوطن العربي، كما لم تتعرض أية حركة تقدمية وطنية وقومية أيضاً مثلما تعرضت له حركة البعث العربي الاشتراكي التي استُهدفت عبر التاريخ الطويل من قبل قوى رجعية وقوى استعمارية إلى جانب الحركة الصهيونية التي رأت في البعث ونظامه الوطني الثوري التقدمي في العراق خطراً حقيقياً على وجودها في فلسطين بامتداداته الإستراتيجية في الحقول السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومع هذا ظل البعث شامخا وظلت حركته متواصلة بخطى متوازنة على الصعيدين السياسي والفكري التنظيمي، متكاملة مع نقطة البداية التي ارتكزت عليها مسيرة البعث منذ السابع من نيسان 1947م وما بعد، وحتى حدوث التقاطع الفكري بين البعث كبعث وبين الذين اختاروا طريقاً آخر عُرف فيما بعد بـ"حزب الطليعة الشعبية" حيث بدأ يسجل تاريخاً خاصاً به وليس بحزب البعث.


العودة إلى التاريخ
من هنا حدث الخلط عند كثير من الذين كتبوا عن تاريخ الحزب أو حاولوا تتبع مساره الوطني دون استيعاب بُعد المسار بالعلاقة القومية بكل أبعادها الفكرية والسياسية والتنظيمية، ولهذا نجد من الواجب العودة إلى التاريخ النضالي للبعث والبعثيين داخل إطار المراحل الثلاث:مرحلة التأسيس، مرحلة الامتداد والتوسع، ثم مرحلة انقطاع البعض عن التاريخ البعثي بشقيه الوطني والقومي وتداخل خنادقه ومخططاته مع الحركة الماركسية اللينينية. في هذه الثلاث المراحل سوف نتحدث بصدق وموضوعية بعيداً عن أي تجاوز لمفهوم التاريخ ورصد الحقائق بموضوعية، بعيداً عن التحامل على الذين خرجوا عن مسيرة الحزب ومنهجه أو على الذين جعلوا أقلامهم سيالة لتشويه الحقائق والهروب عن صفحة الموضوعية والتعاطي مع التاريخ كفن إنساني موضوعي يرصد بتجرد وينتقد بموضوعية ويحكم بدقة خالية من التجني والتجاهل والقفز فوق الواقع.
حلقاتنا القادمة ستسير في هذا الاتجاه كي يطّلع الجميع على تاريخ البعث ونضال البعث والبعثيين داخل الساحة اليمنية وتكاملهم وتفاعلهم مع كافة الأحداث السياسية والاجتماعية والفكرية التي تهم مصلحة الوطن في إطار تداخل مصالحه مع مصالح الأمة العربية كلها مع مراعاة الخصوصيات التي تفرضها طبيعة العلاقة الوطنية والقومية وتقتضيها الموضوعية الصادقة والمجردة عن الهوى.
المراجع:
1- حزب الطليعة الشعبية بين البعث والاشتراكي في اليمن الجنوبي- عبدالوكيل اسماعيل السروري -2007م
الإحياء نت

نضال البعث في اليمن:لمحات موجزة من تاريخ البعث (13)


نضال البعث في اليمن:لمحات موجزة من تاريخ البعث (12)

لمحات موجزة من تاريخ البعث
 
الإحياء نت
 الدكتور قاسم سلام
 
  
الحلقة الثانية عشرة
 
الصراع الدموي بين الجبهة القومية
وجبهة التحرير واستلام السلطة
توقفنا في الحلقة الماضية عند ميثاق الاتحاد القومي الذي اطلعنا على بنوده في العدد الماضي. وبعد مرورنا السريع على الأحزاب والتنظيمات السياسية قبل وبعد الثورة اليمنية سبتمبر 1962م نجد من المفيد التذكير بالتواريخ الهامة التي شكلت مرتكز لما بعدها من أحداث أثرت تأثيرا كبيرا على مسيرة شعبنا في اليمن الطبيعية، وأعطت أبعادا هامة في علاقتها بحركة ودور الحركة الوطنية وعلاقتها ببعضها البعض وتداخلها في العلاقة مع موقف الجمهورية العربية المتحدة ونتائج تلك العلاقات بشقيها الإيجابي والسلبي، ومن أهم هذه التواريخ هي:
- ثورة 26 سبتمبر 1962م
- 19 أغسطس 1963م- تشكيل الجبهة القومية
- ثورة 14 أكتوبر 1963م
ويعتبر هذا التاريخ 14 أكتوبر هو يوم إعلان الجبهة القومية انطلاق الثورة المسلحة ضد الاستعمار البريطاني وعملائه وحلفائه في جنوب اليمن المحتل، و تاريخ يوم استشهاد المناضل راجح بن غالب بن لبوزة.
- أبريل 1964م- زيارة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وأثرها داخل الساحة وردود الأفعال على خطابه التاريخي الذي أكد فيه على ما يلي:
"إذا كنا نحتفل اليوم هنا في صنعاء. هنا قلب اليمن الثائر.... هنا في قلب اليمن الحر.... إذا كنا نحتفل بالعيد وإذا كنا نحتفل بحرية الشعب اليمني الذي قضى على أعتي الطغاة، والذي قضى على مؤامرات الاستعمار، فإننا نذكر إخوة لنا في الجنوب المحتل وفي عدن تعرضوا لأبشع صور القسوة وأبشع صور الإرهاب وأبشع صور التعذيب من الاستعمار البريطاني، وإننا نقول أنا أتكلم باسم شعب الجمهورية العربية المتحدة وأنتم هنا باسم اليمن الحر الثائر تقولون لهؤلاء الإخوة الأعزاء في عدن وفي الجنوب المحتل, إننا معكم أيها الإخوة بدمائنا وقلوبنا وأرواحنا وإننا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نرضى بالاستعمار أو نرضى بالاحتلال ...فعلى بريطانيا ان تخرج من ارض العرب (ص 93- الحزب هو: الشعب الاشتراكي-مكتب التوجيه والنشر)، كما أعلن جمال عبد الناصر في مدينة تعز قائلا:"على بريطانيا أن تحمل عصاها وترحل من عدن وسائر مناطق الجنوب اليمني المحتل" (حزب الطليعة الشعبية ص 45- السفير عبد الوكيل إسماعيل السروري)
انقلاب داخل المؤتمر العمالي
لقد أتت زيارته إلى اليمن تعزيزا ودعما لثورة سبتمبر ودعما ماديا ومعنويا لانطلاق ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963م. كما أتت هذه الزيارة لتعزز وتقوي الدعم الكبير الذي قدمته الإدارة العسكرية المصرية لحركة القوميين العرب في اليمن وللجبهة القومية التي أعلنت الكفاح المسلح بقيادة قحطان الشعبي بالاتفاق والتنسيق مع المخابرات المصرية ومعه فيصل عبد اللطيف وسلطان أحمد عمر وعبد الحافظ قائد وغيرهم من الكوادر المتقدمة في حركة القوميين العرب الذين انصب جهدهم على توحيد الجمعيات والهيئات القبلية والشخصيات الاجتماعية ذات الثقل في ردفان ويافع ولحج وعدن لتشكيل الجبهة القومية التي أعلنت الكفاح المسلح وقادت العمليات في هذه المناطق وخططت لإحداث انقلاب داخل المؤتمر العمالي حيث تمكنت من شقه والاستيلاء على 6 نقابات أصبحت تتحرك تحت قيادة الجبهة القومية فشكلت دعما كبيرا للكفاح المسلح في حين بقيت 3 نقابات تحت قيادة المؤتمر العمالي وحزب الشعب الاشتراكي، وهنا بدأت عملية اختلال التوازن في العلاقة بين فصائل العمل السياسي داخل الساحة الجنوبية، وبالرغم من هذه الخطوة فقد حرصت القيادة المصرية كل الحرص على توحيد الجبهة القومية وجبهة تحرير جنوب اليمن المحتل التي كانت مكونة من حزب الشعب الاشتراكي والمؤتمر العمالي والتنظيم الشعبي للقوى الثورية لتحرير الجنوب اليمني المحتل و"منظمة طلائع حرب التحرير" التي تشكلت بقيادة الرفيق أحمد سكران أواخر ديسمبر 1966م، وقد حرصت هذه المنظمة على فتح الحوار مع الأطراف ثنائيا، مع أنها كانت تعمل ضمن جبهة التحرير التي أصبحت تُرعى رعاية مباشرة من الإدارة العسكرية المصرية التي عمدت إلى توحيد الجبهة القومية (قيادة الخارج) و"منظمة تحرير الجنوب المحتل" معلنة الوحدة في 13 يناير 1966م تحت اسم "جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل" (ص 476- كتاب الأحزاب والحركات القومية العربية الجزء الأول- جمال باروت)، تلك الوحدة التي ووجهت بمعارضة قوية من قيادات الجبهة القومية في الداخل واعتبرتها "دمجا قسريا".
لقد كانت هذه الخطوة في توحيد الجبهة والمنظمة بمثابة حركة استباقية تأخذ بعين الاعتبار الموقف البريطاني القاضي بالانسحاب عام 1968م، ترمي إلى تشكيل جبهة وطنية جنوبية متماسكة تضم كافة القوى السياسية والاجتماعية لمواجهة لحظة إعلان الاستقلال ورحيل القوات البريطانية ونقل السلطات إلى هذه الجبهة الموحدة غير أن معارضة قيادات الجبهة القومية في الداخل عرقلت نجاحها وأفشلت مراميها خاصة وأن قيادات الداخل للجبهة اعتبرت التوحيد "انقلابا على الجبهة القومية"، التي أُعلنت كما يقول جمال باروت:"إن الخلافات مع منظمة التحرير"طبقية" وأنه لا مجال للتعاون ما بينهم".
الأصنج يغير قناعاته
وأمام هذا الموقف لم يكن أمام منظمة التحرير بقيادة الأخ عبد الله الأصنج إلا أن تتحرك بدعم الإدارة العسكرية المصرية بعد أن غيّر الأستاذ عبد الله الأصنج قناعاته التي كانت تدور حول المفاوضات السلمية وحوار الطاولات المستديرة، أن تتحرك المنظمة متبنية خط الكفاح المسلح ملتقية مع "التنظيم الشعبي للقوى الثورية لتحرير الجنوب اليمني المحتل" و"منظمة طلائع حرب التحرير" إلى جانب الهيئات والنقابات التي كانت قد انضوت مع حزب الشعب الاشتراكي في منظمة التحرير مدعومة دعما مفتوحا من قبل الإدارة العسكرية المصرية. وهنا بدأت مرحلة جديدة أكثر تعقيدا إذ دخلت الجبهة القومية مع جبهة "تحرير جنوب اليمن المحتل" في مواجهة دموية وخاصة بعد اغتيال الرفيق علي حسين قاضي رئيس المؤتمر العمالي والقيادي البارز في منظمة البعث. وقد اتهمت منظمة البعث الجبهة القومية مباشرة ويقول جمال باروت في الأحزاب والحركات القومية العربي الجزء الأول ص 477" وقد اتهم البعث الجبهة القومية.... ولم يتأخر الرد إذ انتقم البعث وقام باغتيال عبد النبي مدرم أحد قادة فدائيي الجبهة القومية في تموز 1967م"، فكانت هنا بداية شرارة الاقتتال الأهلي ما بين "جبهة التحرير" و"الجبهة
القومية"، وتداخلت الخنادق أكثر فأكثر عندما قامت حركة 5 نوفمبر 1967م في الشمال حيث اتسعت رقعة المواجهة، إذ يقول جمال باروت في كتابه "استكملت "الجبهة القومية" سحق جبهة التحرير في نوفمبر/تشرين الثاني الذي سيشهد الثلاثين منه إعلان استقلال الجنوب وبذلك باتت عدن وصنعاء وجها لوجه" نفس المصدر 478 .
عبدالناصر يفشل في المصالحة
أما الأستاذ عبد الوكيل السروري فيقول:"ظلت الاحتكاكات والخصومات السياسية تتفاقم بين منظمتي الكفاح المسلح. وأخذت أبعادا خطيرة تجلت في اغتيالات كوادر بعضها البعض مما أدى إلى تفجر الاقتتال الأهلي الأول ثم الاقتتال الأهلي الثاني في نوفمبر 1967م ثم انحياز جيش "اتحاد الجنوب العربي" إلى الجبهة القومية فسمح لها ذلك أن تحسم الاقتتال الأهلي لصالحها وتستلم السلطة منفردة من الإدارة الكلونيالية البريطانية في 30 نوفمبر 1967م، خاصة وأن محاولة الرئيس جمال عبد الناصر لعقد اتفاق مصالحة وطنية بين ممثلي الجبهتين في القاهرة قد باء بالفشل"... ويواصل.. "وفي نوفمبر حدث انقلاب في الشمال أقصى الرئيس عبد الله السلال من السلطة وقد ساهم في الانقلاب البعثيون وساهم معهم ضباط وجنود كانت لهم صلة بحركة القوميين العرب، وضباط مستقلون، وكان الوطنيون المساهمون في الحركة ضباطا ومدنيين هم الذين صمدوا في صنعاء المحاصرة ودافعوا عن الثورة"... مضيفا "وشن تنظيم الجبهة القومية الحاكم في جنوب اليمن حملة تشكيك بانقلاب 5 نوفمبر 1967م." .. مواصلا أيضا "وكان قيام جمهورية اليمن الشعبية في 30 نوفمبر 1967م بداية لبناء دولة يمنية جنوبية مستقلة".
فكانت فعلا مرتكزا لتعميق التباعد وترسيخ قاعدة التشطير التي بدأتها بريطانيا حين أقامت اتحاد إمارات الجنوب العربي، وتوسيع دائرة الاختلاف والاحتكاكات والتوترات ويواصل السروري "وكان من نتائج ذلك نشوب اشتباكات عسكرية في الحدود بين الشطرين 1972م..." .
لقــاءات سريـة
وعودة إلى اللعبة البريطانية والخطوة الاستباقية المصرية، فقد كان الزعيم الراحل جمال عبد الناصر مدركا لتلك اللعبة، ولهذا سعى بكل جدية لتوحيد الجبهتين والوصول إلى حكومة وحدة وطنية وعمل دستور مؤقت للبلاد، غير أن البريطانيين كانوا أسرع في التحرك وإشعال الحرائق لمعرفتهم بنفسيات المجتمع الذي يتعاملون معه والعلاقات المتقاطعة والمصالح المتداخلة، مستفيدة من فشل حوارات القاهرة والإسكندرية التي كان يرعاها الرئيس جمال عبد الناصر رعاية خاصة. وكانت مبادرة المندوب السامي البريطاني بما تحمله من خبث وخسة سريعة ، إذ يقول الأستاذ السروري "وكان المندوب السامي البريطاني السير همفري ترفليان قد رفع الحضر عن الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل وهو الحضر الذي كان قد فرضه عام 1965م وناشد في الوقت نفسه الأحزاب السياسية المعارضة بإجراء حوار مفتوح بهدف إنشاء حكومة انتقالية. .. وفي مايو 1967م عبر البريطانيون عن رغبتهم في إجراء حوارات مع ممثلين عن جبهة التحرير والجبهة القومية، وحدث لقاءات سرية لم يكشف النقاب عنها حتى اللحظة. وكان انحياز الجيش والأمن الاتحاديين للجبهة القومية في نهاية 1967م وبإيعاز من السلطة الاستعمارية عاملا آخر من عوامل توسيع رقعة الصراعات السياسية على الساحة، ترسم بريطانيا سيناريو خاصا بها يخدم مصالحها ومنافعها المستقبلية، وكان ذلك تمهيدا عمليا لتغلب الجبهة القومية على خصومها السياسيين وتسليمها الاستقلال الوطني في الثلاثين من نوفمبر 1967م.
عبدالسلام عارف يتوسط
وفي حديث صحفي للأخ عبد الله الأصنج الذي يعتبر أحد أقطاب جبهة التحرير نشر في صحيفة الأيام العدد 3254 بتاريخ 30 ديسمبر 2000 إذ قال: "لم يكن هناك عرض بريطاني بتسليم السلطة لجبهة التحرير. "نعم كانت لنا اتصالات بالبريطانيين والسلاطين- وأضعنا فرصة تقاسم السلطة مع الحزب الاشتراكي في الجنوب... توسطت حكومة عبد السلام عارف مع الانجليز بطلب منا وطرحت لندن مشروع "حكومة ائتلافية" أما المصريون انحازوا إلى قضية واحدة وهي إخراج الإنجليز من جنوب اليمن".
الجبهة القومية تستلم السلطة
إنها اللعبة البريطانية وفن حبك الدسائس الخبيثة التي اتبعوها مع الشريف حسين في ثورة 1916م ضد الأتراك ومع شعب فلسطين ومع معظم الأنظمة العربية، وهي جزء مما يتضمنه القاموس البريطاني من أنواع الحيل والألاعيب الخبيثة المتبعة مع العرب بشكل خاص وشعوب العالم الثالث بشكل عام. وقد كان الأستاذ عبد الوكيل السروري دقيقا حين شخص الحالة قائلا:"وجد المندوب السامي البريطاني الذائع الصيت في فن حبك الدسائس، ورسم المؤامرات، وإخراجها إلى حيز التنفيذ، الفرصة الحاسمة التي كان يعد لها، ويتحين قيامها منذ أن وطأت قدماه أرض المنطقة في شهر مايو 1967م"... فإذا به يطلع على الدنيا ببيان معلنا اعتراف حكومته بالجبهة القومية وحدها ممثلا شرعيا وحيدا للشعب، ويدعوها فيه إلى التفاوض من أجل تسليم السلطة".. مواصلا "فكان ذلك البيان الذي أذاعه السر تريفليان هو القشة التي قسمت ظهر محادثات الوحدة الوطنية التي كانت لا تزال تجري في القاهرة، والمعول الذي قوض ما تبقى من أمل في إمكانية تعاون وائتلاف الفصيلين الوطنيين- القومي والتحرير- اللذين كانا قد اضطلعا بأعباء الكفاح بشقيه المسلح والسياسي- في آخر سنة للوجود البريطاني الاستعماري في الجنوب اليمني".
ولا داعي للخوض بتفاصيل عملية مفاوضات الاستقلال التي جرت في عدن وجنيف لأنها لم تخرج عن أبعاد دعوة الأحزاب السياسية المعارضة بإجراء حوار مفتوح للوصول إلى تشكيل حكومة وطنية انتقالية.
حقا لا تخرج عن اللعبة البريطانية الخبيثة لأنها كانت تلعب بمختلف الأوراق خاصة بعد أن أمرت جيش الاتحاد وأجهزته الأمنية بالانحياز ماديا ومعنويا إلى الجبهة القومية والانضواء تحت قيادتها.
اللعبة البريطانية في تسليم السلطة
لقد كانت بريطانيا تعي وعيا كاملا ما قد يحدث بعد استلام الجبهة القومية من تعقيدات ودماء واعتقالات وسجون متواصلة وثأرات متداخلة في أبعادها السياسية والقبلية والمناطقية ومن تثبيت كيان في جنوب اليمن مشحون بالعداء للنظام في الشمال وللجمهورية العربية المتحدة التي وقفت وقفة جادة من أجل توحيد الجبهتين وكافة القوى السياسية التي حملت السلاح والتي دخلت المعترك السياسي قبل بدء الكفاح المسلح في جبهة واحدة تتحمل مسئولية البناء الوطني وتحقيق الأهداف التي ناضل الجميع من أجلها. وإلى جانب هذا وذاك كانت بريطانيا تدرك أنه من الاستحالة أن يلتقي أطراف العمل السياسي بعد الدخول في معارك دموية وبالتالي كانت أيضا تراهن على أن وجود كيان سياسي خاص بحركة القوميين العرب في هذه المنطقة مختلفا مع خط القاهرة وخط دمشق سيباعد المسافة بين تحقيق أهداف الأمة في الوحدة والحرية والاشتراكية، وسيوسع من دائرة التخندق والانغلاق القطري، وهو ما ينسجم مع إستراتيجيتها في المنطقة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كانت بريطانيا تعتقد أن دولة تظهر إلى حيز الوجود معلنة عن نفسها ستظل بحاجة للدعم المادي والمعنوي البريطاني وبالتالي مهما رحلت القوات البريطانية فإن عدن ستبقى محتاجة لما هو أكثر من الستين مليون جنيه إسترليني التي طلبت منها أثناء المفاوضات في جنيف إلى جانب حاجتها إلى تزويد جيش الدولة الجديدة بالأسلحة والمعدات وغير ذلك من متطلبات التنمية والأمن والاستقرار.
لم تكن بريطانيا تعتقد أن حكومة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية لن تتمكن من الاستقرار خاصة وأن طروحات الجبهة القومية كانت طروحات تتجاوز الواقع، وهي طروحات سياسية توحي من وجهة نظرها بتبني نظرية الصراع الطبقي والانتشار الإيديولوجي في الإقليم. وعليه فإنها باتت تعتقد أن تسليم السلطة إلى الجبهة القومية مع وجود جيش الاتحاد وأجهزة الأمن معها سيمكنها من استمرار لعبتها داخل جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
المراجع:
1- الأحزاب القومية في اليمن النشأة- التطور- المصائر- قادري احمد حيدر
2- عمال اليمن في المعركة- دار ألهنا للطباعة عدن عبد الله الأصنج
3- الصراع في عدن- شاكر الجوهري
4- الأحزاب والحركات القومية العربية, الجزء الأول جمال بارود وفيصل دراج
5- الحزب هو الشعب الاشتراكي- حزب الشعب الاشتراكي-مكتب التوجيه والنشر-عدن 1964

 
 
الإحياء نت

نضال البعث في اليمن: لمحات موجزة من تاريخ البعث (11)

لمحات موجزة من تاريخ البعث
 
الإحياء نت
الدكتور قاسم سلام 
 
  
الحلقة الحادية عشر
 
حزب الشعب الاشتراكي
بهذه الحلقة نتناول نشأة حزب الشعب الاشتراكي، ومواقفه النضالية والسياسية وموقفه من عملية الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني، حتى يعرف القارئ إيجابيات وسلبيات هذا أو ذاك من أطراف العمل السياسي قبل بدء عملية الكفاح المسلح وأثنائها.
لقد كثر النقد وبالغ البعض حتى الاتهام وإصدار الأحكام العشوائية أحيانا وغير الموضوعية أحيانا أخرى ضد حزب الشعب الاشتراكي دون ملامسة الظروف التي كانت تحكم مساره، والعلاقات الوطنية والعربية التي رافقت خطه السياسي وطروحاته في تلك المرحلة، وقد توسعت ساحة اللغط السياسي والجدل حول إنشائه، فقد كانت معظم الاتهامات المركزة ضده تنطلق من زاوية سياسية مطلقة، إن لم نقل أنها كانت اتهامات تقع ضمن إطار المماحكات السياسية والتنافس الحزبي ضيق الأفق والمتعصب والبعيد عن الموضوعية والواقعية وخاصة تلك التي وصفته بأنه "رهان استعماري بريطاني"، وقد أنصفه الأستاذ قادري أحمد حيدر حين قال: "وهو في تقديرنا حكم أو استنتاج لا صله له بالقراءة الموضوعية التاريخية، قدر تعلقه بنظرية وفكر المؤامرة، حكم واستنتاج لا علاقة له بالواقع، ولا بالتحليل العلمي، ولا بالنقد الموضوعي، وهو عمليا أسهل الطرق لإقصاء وإلغاء الآخر، تجسيد وتعبير عن ثقافة الإقصاء المتبادلة بين أطراف الحياة السياسية اليمنية في ذلك الحين، وهو حكم سياسي أيديولوجي، فيه من رد الفعل وبؤس المزاج السياسي العصبوي أكثر مما فيه من العقل، ومن القراءة الموضوعية النقدية العقلانية التاريخية، وهذا القول ليس فيه أي ذرة من الدفاع المجاني عن حزب الشعب الاشتراكي، ولكنها دعوة لقراءة موضوعية نقدية عقلانية تاريخية. دعوة لقراءة موضوعية لحقائق وقائع السياسة، والتاريخ، كما هي، بعيدا عن فائض الذات التي تطغى على واقعية الموضوع" (1).
العمال والطلاب يواجهون قوات الاحتلال
لقد أتى حزب الشعب الاشتراكي في سياق نضالي مرتبطا بنشأة ونمو وتطور الحركة العمالية ونضالها المتنوع والذي أخذ كل الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، في مواجهة الاحتلال، منطلقا في ذلك من تفاعل أعضائه وقياداته المؤسسة, داخل الساحة وارتباط حركتهم ومواقفهم السياسية والفكرية بامتداداتها الوطنية والقومية، وعلاقتها بطبيعة المرحلة التاريخية، التي كان يعيشها شعب اليمن في ظل نظامين كهنوتي في الشمال، واستعماري في الجنوب، وطبيعة الظروف المحيطة بالشطرين..... ويكفي أن نتتبع البدايات وصولا إلى نشأة حزب الشعب الاشتراكي وأن نتعرف على نوعية رجال التجربة منذ قيام المؤتمر العمالي في 3 مارس 1956م، حيث أتت لحظة الإعلان، إعلان التأسيس، بعد موجات من المواجهات والإضرابات والتظاهرات التي استغرقت أشهر بكاملها وسقط فيها العديد من الشهداء العمال في مدينة البريقة، ثم تلا ذلك مواجهات غاضبة في ميدان مدينة التواهي أمام مركز (البوليس)، مواجهة بين العمال وقوات الاحتلال البريطاني، إذ أصر العمال على إطلاق سراح زملائهم المعتقلين، وتم اقتحام مركز (البوليس) من الباب الخلفي من قبل العمال والطلاب، وتم الاشتباك بالأيدي مع الجنود ثم استخدمت القوارير الزجاجية الفارغة والمليئة بالبيبسي كولا، بعد أن اقتحم الطلبة ,محلات المشروبات الباردة، المواجهة لقسم (البوليس) في الجهة الخلفية للرد على إطلاق النار من قبل نجدة عسكرية أطلقت النار على العمال والطلاب، فاستشهد منهم سبعة في شارع رقم (2)، و من بينهم الطالب الشهيد قاسم هلال الذي كان بجوار الرفيق قاسم سلام كما جرح الكثيرون في البوابة الرئيسة للقسم شارع رقم (1) في تلك المظاهرة، وقد توالت الإضرابات والمواجهات بعد المواجهة التي تمت في نهاية النصف الأول من عام 1957م بعد أن شعر العمال أن المعركة معركتهم وأن الأحزاب والتنظيمات السياسية في تلك المرحلة لم تكن كما يبدو مهيأة لمواجهة الحكومة الاستعمارية، فاتسعت ساحة المواجهة، إذ انضم التجار اليمنيون الذين كانوا تحت رحمة الشركات الأجنبية المتحكمة بعجلة الاقتصاد واحتكار السوق والبنوك، فكان ذلك الموقف رافدا جديدا عزز من حركة النقابات العمالية التي تصدت للمواجهة، وأتت صدامات أكتوبر 1958م التي سقط فيها عشرات الشهداء من بين العمال واعتقل 560 عاملا يمنيا من أبناء الشمال والجنوب، وسجن على إثرها الرفاق: عبده خليل سليمان، محمد سالم علي وإدريس حنبلة، وبالرغم من تلك الضغوط البريطانية استمر العمال في مواقفهم النضالية غير هيابين أو مترددين، فاضطرت حكومة الاستعمار إلى إصدار "قانون التحكيم الإجباري" الذي يحرم الإضرابات ويصر على حصول العمال على تصريح من المحكمة الصناعية، ثم واصلت الحكومة البريطانية عملية معاقبة 60 عاملا من عمال الحكومة، وقدمت الرفيق علي حسين قاضي رئيس نقابة الحكومة والحكومات المحلية وكل من المناضلين صالح عرجي سكرتير نقابة الميناء، وأحمد سالم حميدان عضو إداري في نفس النقابة،للمحاكمة, وانتشر الجنود البريطانيون في الشوارع والجولات وسطوح منازل الهندوس ومباني الحكومة ومستودعات "النافي" واجتمع المجلس التشريعي- الحكومة- تحت حراسة مشددة ولم يؤيد قانون "البيومي" إلا البيومي والضباط الإنجليز أعضاء حكومته.
الرد على قانون المجلس التشريعي
كان الرعب مسيطرا على مدينة عدن حيث ظلت الطائرات النفاثة والهيلوكبتر تحوم في سماء المدينة منذ الصباح الباكر كنوع من التهديد، ومع هذا كله أعلن المؤتمر العمالي: "أن المعركة لا زالت قائمة... وهي لم تعد مجرد قانون يحرم الإضراب فحسب... بل أصبحت معركة الشعب أجمع، لينسف كل القوانين الاستعمارية... ويحقق النصر في الاستقلال السياسي والاقتصادي وتحقيق المجتمع الاشتراكي السليم... ونحن على علم بأن المزيد من التعسف والاضطهاد سوف يواجهنا ولكن إلى حين"(2).
إذن حزب الشعب الاشتراكي لم يأتِ من فراغ ولم يكن نبتة غريبة عن واقع الوطن اليمني، بل أتى متواصلا مع دور المؤتمر العمالي في "قيادة الرأي العام وارتباط قطاع كبير وهام من الشعب بالمؤتمر، هو قطاع العمال الذين تعتمد عدن كميناء تجاري ومدينة تجارية، على جهودهم أكبر اعتماد".
ثم يأتي رفض المؤتمر للدستور الجديد واعتبار المقاطعة نقطة انطلاق لكفاح طويل مؤكدا رفض قرارات "المجلس التشريعي" والتأكيد على حق أبناء الشطر الشمالي من الوطن في ممارسة حقوقهم السياسية كاملة، ورفض القيود المالية التي تحول دون مزاولتهم لتلك الحقوق، كما رفض قانون الهجرة الأجنبية وملحقاته التي تجيز لأبناء الكومنولث مزاولة حقوقهم السياسية في المستعمرة مع التشديد على حرمان أبناء شمال الوطن، ومحاولة تقييد إقامتهم ومزاولتهم للأعمال. حقا لقد كان هذا الموقف حافزا للقاء الهيئات السياسية التي تداعت لمواجهة الأحداث والرد على قانون المجلس التشريعي وهي:
- المؤتمر العمالي
- الاتحاد اليمني
- رابطة أبناء الجنوب
- حزب الجبهة الوطنية المتحدة
إذ رفعت مذكرة إلى الحاكم العام في 26 ديسمبر 1958م تتضمن قراراتها تعديلات دستورية للمجلس التشريعي وتتلخص في:
1- أن يرفض المجلس المقترحات الدستورية التي قدمتها حكومة بريطانيا كلية لأنها لا تستجيب لمطالب الشعب العربي، كما أنها تهدد قوميته.
2- أن يتخذ الخطوات الفعالة لإحباط تنفيذ المقترحات المذكورة وإعلان مقاطعة الانتخابات والتعبير عن رفضها.
3- أن يلتزم كل عامل نقابي حر ينتمي إلى هذا المؤتمر بتنفيذ هذه القرارات كلية.
4- أن يناشد جميع الهيئات والمواطنين بضرورة التجاوب مع هذه القرارات وعدم الاشتراك مطلقا في عملية الترشيح والتصويت.
5- أن يبلغ قرار المقاطعة لجميع أعضاء النقابات المنتمية إلى المؤتمر العمالي ويتأكد من تنفيذها.
6- أن يصدر كتيبا صغيرا بواسطة لجنة الثقافة والنشر يشمل كل هذه القرارات ويبسطها للمواطنين.
7- أن يعلن عن رفضه للمقترحات الجديدة هذه في الوقت الذي يرفض فيه الاعتراف بالمجلس التشريعي القادم كممثل لأماني الشعب ومطالبه ومصالحه.
8- أن يتعاون مع كل هيئة وطنية تتفق قراراتها وقراراته. (2)
البعثيون ينسحبون من المجلس البلدي
ونظرا لتتالي وتتابع الأحداث فقد أصدر المؤتمر العمالي بيانا في 17 سبتمبر 1958م يؤكد رفضه القاطع للتعديلات الدستورية ومقاطعته للانتخابات، ويدعو إلى الانسحاب من المجلس البلدي كما نشرت صحيفة "العامل" البيان مع مقال حول الرشوات في الإدارات الحكومية، في نفس التاريخ، وعلى إثر إعلان ذلك البيان فقد انسحب النائبان الرفيقان عبده خليل سليمان، وهو نائب رئيس المؤتمر العمالي ونقيب عمال البحر، ورئيس تحرير صحيفة "العامل"، و(قد كان يمثل دائرة التواهي في المجلس) والنقيب محمد سالم علي نقيب عمال الباصاتٍ (الأتوبيسات) وصاحب مطبعة البعث التي تطبع "العامل" (وقد كان يمثل دائرة كريتر)، وقد انسحب معهما أيضا الأستاذ مصطفى عبد الكريم بازرعه، من نواب دائرة المعلا، وكذا لسيد عبد القوي خليل من نواب دائرة كريتر (2).
فقد كان لهذا الموقف الوطني الشجاع الذي عبر عنه أعضاء المجلس البلدي والذي جاء استجابة لنداء المؤتمر العمالي، أثرا كبيرا ، في تدعيم موقف الهيئات الشعبية الرافضة للتعديلات الدستورية ،وشجب الانتخابات ، فأشاع تفاؤلا كبيرا في الأوساط الشعبية المختلفة،في وقت كان رد الحكومة ردا منفعلا ،إذ رفع (محامي التاج "مساعد المدعي العام") قضية ضد كل من الرفيقين عبده خليل سليمان ومحمد سالم علي بدعوى امتهانهما لكرامة المحكمة وذلك بسبب ما نشرته صحيفة "العامل" ضد حكومة الاحتلال، فاعتبر هذا الموقف ردا عمليا بريطانيا منفعلا على استقالتهما من المجلس البلدي ومحاولة لمنع حرية التعبير(2).
نقطة تحول في الكفاح الوطني
لقد كانت محاكمة المناضلين مسرحية بريطانية لخلق نوع من الرعب وفي محاولة لإيقاف الاحتجاجات والاعتراضات ومنع المواجهات وكتم حرية التعبير، ومع هذا فلم يعبأ المناضلون في المؤتمر بهذا النوع من التهديد والوعيد، وأتت قرارات المحكمة المتعسفة لتهييج الجماهير في محاولة لتخليص المناضلين عبده خليل سليمان ومحمد سالم علي ،من أيدي (البوليس) قبل إيصالهما إلى السجن، فكانت المعركة بالحجارة والقوارير الزجاجية الفارغة، فازداد الاندفاع نحو السجن لتحول الجماهير دون دخول النقابيين العماليين القياديين البارزين إلى السجن، فاستخدم (البوليس) القنابل المسيلة للدموع،ثم الذخيرة الحية لتفريق المتجمهرين، فسقط العشرات من الضحايا، كما ألقي القبض على المئات من العمال من أبناء الشمال، الذين رُحِلوا فورا إلى شمال الوطن. وتلا ذلك إلقاء القبض على الرفيق المناضل والشاعر الوحدوي إدريس حنبلة ،وحكم عليه أربع سنوات ،لقي فيها أشد وأسوأ أنواع المعاملة في سجنه رحمة الله عليه. وأمام صمود المناضلين وإصرار القيادات على متابعة المسيرة لم تتمكن الإجراءات المتشددة من قبل سلطات الاحتلال، تلك الإجراءات التي اتبعت لمواجهة الاعتراض على التعديلات الدستورية وقوة المقاطعة للانتخابات، لم تتمكن من إحباط جدية المواجهة بل أكدت نجاح المقاطعة وباعتراف من الصحف التي كانت تدور في فلك الاحتلال، إذ أكدت صحيفة "الأيام" الصادرة في 20 يناير 1959م من خلال افتتاحيتها بقلم رئيس تحريرها الأستاذ باشراحيل الذي كان عضوا في المجلس التنفيذي السابق تحت عنوان "هذا طريقنا" قائلا: (إن أروع ما قرأت في الأيام الأخيرة هو المقال الذي كتبه الزميل حسين علي بيومي في "الكفاح" حول نجاح المقاطعة الشعبية ضد انتخابات المجلس التشريعي.... أقول أروع ما قرأت لسببين رئيسيين- الأول إن المقال في مجموعه ومضمونه يعتبر تسجيلا أمينا للحقيقة والتاريخ والثاني إن هذا التسجيل بالذات أتى على لسان الزميل البيومي وهو الذي اختير في جميع المعارك الانتخابية وخاصة المعركة الأخيرة للمجلس التشريعي إلى جانب أخيه المحترم حسن علي بيومي صاحب "الكفاح" ورئيس تحريرها الذي فاز بالانتخابات ذاتها.
وعندما أشير إلى المقال المذكور أشهد الله بأني لا أقصد سوى الإشادة بالروح الوطنية التي حملتها إلى القراء كل كلمة وردت في المقال... وهي الحقيقة التي أشرت إليها في "الأيام" وأشارت إليها الصحف الوطنية الأخرى حول النجاح العظيم الذي أحرزه الشعب في مقاطعته لانتخابات المجلس التشريعي وعندما يقول الزميل البيومي كلام كهذا: "ولو لم يكن هناك هجرة وأبناء كومنولث منحوا حق التصويت والانتخابات لأقفرت مراكز التصويت إلا من أخ لمرشح أو نسيب له أو ابن عم أو خال أو صديق". عندما يقول هذا الكلام إنما يجزم بكل تأكيد بالنقطة الهامة وهي أن الجاليات الغير عربية هي التي اشتركت في التصويت بل كان لها الفضل- إذا صح هذا التعبير- في فوز المرشحين وسقوط غيرهم).... مواصلا: (إن كلمة "شعب" لا تنطبق إلا على عرب هذه البلاد أصحاب الحق فيها... وهم ليسوا سوى جزء لا يتجزأ من الشعب العربي الواحد. هذه هي حقيقة الانتخابات... والتاريخ عندما يسجل الحقائق لا يخشى في تسجيله لومه لائم، وستظل هذه الصفحة من التاريخ مرجعا للأحفاد ومن يليها عندما يقرأون تاريخ الكفاح الوطني في هذه البلاد العربية. بقي علينا الآن أن نعرف شيئا آخرا- إن المقاطعة كانت نقطة تحول في الكفاح الوطني، ونجاحها أحدث تغييرا جذريا في التفكير الوطني السياسي بصورة عامة. إن الخوف على اندثار قوميتنا العربية أصبح يملأ قلوبنا جزعا من هول ما رأيناه في الانتخابات، إن القومية العربية هي كل ما نملكه اليوم ونعتز به. إن الشعب العربي في كل جهة من الوطن العربي الكبير أصبح يدين بمبادئ القومية العربية والوحدة العربية... في طريقه بكل ثبات وإيمان لتحقيق هدفه المنشود "الوحدة العربية".)
إنشاء حزب الشعب الاشتراكي
لا شك أن التنظيمات السياسية التي عاصرت نشاط الحركة العمالية وتفاعلت معها وبعض قيادييها البارزين كانوا قد احتلوا مواقع متقدمة في نقابات العمال وأسهموا إسهاما فاعلا في توسيع وترسيخ دور المؤتمر العمالي القوي والمؤثر في أوساط الجماهير، ولا شك أيضا أن الكثير من الذين كتبوا عن تلك المرحلة وشخصوا تعقيداتها وتابعوا تطوراتها أدركوا بموضوعية لماذا نشأ حزب الشعب الاشتراكي، وهم يتابعون -أيضا - الموقف البريطاني،الذي كان يلح على فصل الحركة العمالية عن النشاطات السياسية في محاولة لجعلها حركة مطلبيه ذات بعد اقتصادي واجتماعي فقط ، هذا الإصرار أو الإلحاح دفع بالكثير من القياديين البارزين في المواقع المتقدمة في المؤتمر العمالي إلى التفكير الجاد لإنشاء حركة سياسية تعزز دور الحركة العمالية، وليس كما يطرح البعض أن قياديا بارزا في المؤتمر العمالي وغيره من القادة غير الحزبيين فكروا في تشكيل حزب خاص بهم في مبادرة استباقية قبل أن تنجح الأحزاب السياسية التي لها ثقل سياسي وفكري داخل صفوف المؤتمر العمالي من أن تسحب البساط من تحت أقدام ذلك القيادي والاستيلاء على قيادة الحركة العمالية بدلا عن العناصر القيادية غير الحزبية التي كان لها دور فاعل ونشط في الوسط العمالي والسياسي أيضا، من أجل ذلك وكما يقول الأستاذ شاكر الجوهري :"وفي يوليو 1962 دعا المؤتمر العمالي العناصر الوطنية الشريفة إلى دراسة فكرة إنشاء حزب سياسي ثوري تكون له قاعدة شعبية تشمل بجانب العمال، صغار التجار والمزارعين والشباب والمرأة والخريجين. وبعد لقاءات عديدة تقرر إنشاء حزب الشعب الاشتراكي ليقود المعركة السياسية معتمدا على تأييد المؤتمر العمالي وبقية القطاعات الشعبية الفعالة"(3).
حزب الشعب واجهة أساسية للمؤتمر العمالي
غير أن الواقع المعاش آنذاك يختلف في جوهره عن طروحات بعض الكتاب والنقاد خاصة وأن الأحزاب السياسية بعد ثورة 26 سبتمبر وبروز الخــــــــلاف بين عبدالناصر والبعث الذي كان له انعكاس مباشر على علاقة البعثيين بحركة القوميين العرب والعناصر المؤيدة للرئيس جمال عبدالناصر من جهة، ومن جهة أخرى كان المؤتمر العمالي أشبه بحزب الأحزاب، إذ تواجد في صفوفه البعثيون و القوميين العرب والماركسيون والعناصر الوطنية المستقلة، وإلى جانب هذا وذاك كان بعض القياديين في المؤتمر العمالي بدون شك يحرصون كل الحرص على تجنب الاحتكاك مع قيادة الجمهورية العربية المتحدة، بل ويحرصون كل الحرص - وخاصة بعد انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة -على حصولهم على دعم سياسي وعمالي على الأصعدة الوطنية والقومية والدولية، هذه التصورات والتباينات لا شك دفعت قياديين بارزين وفي مقدمتهم عبد الله عبد المجيد الأصنج، على إنضاج فكرة إنشاء حزب الشعب الاشتراكي في شهر يوليو1962م، منطلقا من حرصه الشديد على بقائه في الموقع المتقدم في المؤتمر العمالي من جهة، ومن جهة أخرى أن يكون له موقعا متقدما في حزب الشعب الاشتراكي ، فيتمكن بذلك من جعل حزب الشعب الاشتراكي واجهة أساسية للمؤتمر مع بقاء المؤتمر العمالي عمودا فقريا للحزب، فيحقق بذلك نقلة نوعية داخل الساحة، نقلة تمتلك زمام المبادرة السياسية والفكرية إلى جانب قوة الدفع الشعبية المحددة في كينونة حزب الشعب الاشتراكي، التي حددها برنامجه بحزب يضم العمال وإلى جانبهم قطاعات صغار التجار والشباب والمزارعين والمثقفين والمرأة، معتقدا أن هذه النقلة ستمكنه من تجاوز أزمة الحركة العمالية وتجنبه أية أزمة سياسية تسحب بساط المبادرة من تحت أقدامه.
فرز سياسي تنظيمي جديد
ولا يفوتنا هنا من القول أن الأخ الأستاذ قادري كان قد لامس إلى حد كبير في تقييمه للظروف المحيطة بالمؤتمر العمالي ,ونشأة حزب الشعب الاشتراكي،قد لامس كبد الحقيقة حين قال:"إن الموقف الأقرب إلى الدقة الموضوعية التاريخية والفهم السليم لحقائق التاريخ، هو أن تشكيل حزب الشعب الاشتراكي إنما جاء تعبيرا عن أزمة سياسية، وفكرية ونضالية عميقة تعيشها القيادة السياسية الإصلاحية التقليدية في قيادة الحركة العمالية، بدءا من عبد الله الأصنج السياسي المراوغ، حتى القيادات السياسية القومية البعثية الإصلاحية التاريخية التي انكمش دورها، وتجمد فكرها السياسي ،....... ولم تتمكن من تجاوزه، بدأ معه ينسحب البساط السياسي والجماهيري من تحت أقدامهم".... مضيفا: "فقدوا القدرة على السيطرة على قاعدة الحركة العمالية التي بدأت تتوزع، وتستقطب على قاعدة فرز سياسي تنظيمي جديد بين الاتجاهات السياسية القومية والتقدمية الجديدة، حركة القوميين العرب والماركسيين، شباب البعث، بعد أن فشل النهج السياسي للقيادات الإصلاحية التقليدية في إدارة وقيادة الحركة العمالية والنقابية في جنوب اليمن". ويضيف منتقدا رؤية وممارسة القيادة الإصلاحية آنذاك،التي كادت توصل العمل السياسي والحركة العمالية بشكل خاص إلى نفق مظلم، خاصة عندما سعت إلى تقييد الحركة العمالية بسياسة النهج الاقتصادي فقط ومحاولة السعي الجاد إلى: "الفصل بين العمل النقابي العمالي، والعمل السياسي الوطني الديمقراطي... تماشيا مع توجهات بعض قيادات المؤتمر العمالي، في ارتباطاتها الخارجية بحزب العمال البريطاني، وباتحاد العمال العالمي الحر للنقابات في "بروكسيل" الذي قيد كفاح الحركة العمالية والنقابية في حدود المطالب الجزئية الاقتصادية، وفي نطاق العمل السياسي الدستوري، المفاوضات، المساومات التكتيكية على قضايا سياسية وطنية إستراتيجية، بعد أن بدأ خيار المواجهة المسلحة يطل برأسه في هذا الموقف أو ذاك، وتأسيس حزب الشعب الاشتراكي لم يكن "طعما ابتلعه حزب البعث" كما يقول الدكتور محمد الشهاري بل تلبية لحاجة سياسية تنظيمية مرتبطة بمصالح اتجاهات القوى السياسية الانتهازية في قيادة الحركة العمالية، والجماعة السياسية الإصلاحية التقليدية في إدارة العمل السياسي الوطني في البلاد، ونستطيع القول: أنها أزمة قيادة رأس الاتحاد العمالي بمختلف اتجاهاته، الأصنج، والجناح الإصلاحي التقليدي في قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي"طلائع حرب التحرير.
نعم لقد كانت بالفعل أزمة سياسية طالت قيادة منظمة البعث آنذاك التي اجتهدت خارج إرادة الأغلبية التي كانت مع الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية ،الأغلبية التي انتصرت إرادتها وان كان ذلك متأخرا في تشكيل "منظمة طلائع حرب التحرير" بقيادة الرفيق احمد سكران،الذي اغتالته الجبهة القومية فيما بعد تواصلا مع سياستها الدموية التي انتهجتها في تعاملها مع خصومها العقائديين والسياسيين المعارضين لأساليبها الوحشية والهمجية.بهذا الصدد يقول محمد جمال بارت(وفي هذا السياق سارعت منظمة البعث وشكلت جهازا فدائيا عسكريا تحت اسم "منظمة طلائع حرب التحرير"بقيادة احمد سكران،وقد عارضت قيادة الفرع برئاسة انيس حسن يحي تشكيل هذه المنظمة،بينما دعمتها بقية منظمات الحزب.)(4)
دعاة التفاوض والمأزق التاريخي
وبالرغم من موضوعية ما ذهب إليه الأستاذ قادري إلا أننا نود التذكير إلى أن هناك كثير من المحفزات و المبررات القوية أيضا التي عجلت بإنشاء حزب الشعب الاشتراكي ،وأهمها تكمن في بروز غالبية شباب البعث وبروز تيار قومي ووطني أظهر تململا حقيقيا أمام القيادات السياسية الإصلاحية التي بدأت تتعاطى مع الطروحات الفضفاضة التي حاولت بريطانيا التسويق لها منذ وقت مبكر 1958-1959م، وهي قضية المفاوضات السياسية في حل مشكلة جنوب اليمن ،في محاولة لتمرير مخططها الاستعماري لترسيخ بقائها،فكثفت جهودها وجهود حلفائها ،بعد قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م وإعلان ثورة 14اكتوبر1963م ,إذ وجدت نفسها أمام مأزق تاريخي ينبغي مواجهته بمختلف الوسائل كي تتجاوز عملية الكفاح المسلح في محاولة لاحتوى الموقف عبرا لمساومات السياسية متجاهلة أن من شم رائحة البارود وهي تمتزج مع رائحة دم شهداء الوطن وهو في ساحة المواجهة التاريخية لا يقبل بالمساومة السياسية بديلا للنصر أو الشهادة. وقد استوعبت قيادة المؤتمر العمالي أبعاد الجدل السياسي والفكري الذي رافق المتغيرات داخل الساحة الوطنية والقومية واستحضرت كافة المواقف النضالية والسياسية للمؤتمر العمالي وبرنامج حزب الشعب الاشتراكي المؤكد على مبدأ التحرير الكامل والاستقلال الناجز وتقرير مصير الجنوب وصولا لوحدة اليمن من جهة، ومن جهة أخرى رفض فكرة اتحاد إمارات الجنوب العربي التي حاول الاستعمار طرحها في مواجهة الغليان الثوري الذي كان طاغيا بعد قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر.
ميثاق الاتحاد القومي لليمن
لقد كانت هناك مبررات لوجود حركة جادة تعلن عن مولود جديد يستوعب خط المواجهة الثوري بأبعاده الإستراتيجية، وبدأ التحرك من أجل تنفيذ "ميثاق الاتحاد القومي لليمن"، والذي ساهمت في صياغته تقريبا معظم القوى بما فيها المؤتمر العمالي حيث ورد في ديباجته "من خلال البعث الذي تعيشه قضيتنا، قضية القومية العربية اليوم- ومن خلال نضالنا... نضال الشعب العربي من أجل تحقيق أهدافه ومن أجل بلوغه مستوى الرسالة الخالدة التي لا بد أن يؤديها. ومن خلال انتصاراتنا.... انتصارات القومية العربية الصاعدة.... ومن خلال تجاربنا التي مارسنا حلوها ومرها. ومن خلال كل هذه العوامل مجتمعة نقف اليوم في هذا الإقليم من الوطن العربي الكبير وقفة الجندي الذي وعى قضيته وعرف دوره فيها فوقف يراجع خططه، ويصنف أعداءه ويمتحن أسلحته ويتأهب لفتح المعركة واثقا مطمئنا من نجاحه مصمما على النضال الذي لا رجعة فيه ولا تراجع... النضال حتى يبلغ مستوى الرسالة الخالدة التي قدر له أن يؤديها. من خلال كل هذه الظروف وهذا الوعي وهذه الروح القومية وهذا البعث العربي الجديد... نقف اليوم نستلهم جماهيرنا للتعبير السليم في نضالنا والطريق السوي لكفاحنا، ونقدم هذا الميثاق ملتزمين بما ورد فيه التزاما يستدعي بالضرورة أن يلتزم المتحدون معنا في هذا التجمع القومي بما يرد فيه نصا وروحا". كما أكد على أهمية(بذل المساعي لتوحيد الصف الوطني وتحقيق منظمة سياسية فعالة تحتضن المبادئ الوطنية الملخصة في الميثاق القومي وإعداد برنامج سياسي عملي يحقق سيطرة القوى الوطنية وتحقيق استقلال المنطقة من كل نفوذ سياسي واقتصادي أجنبيين ووحدتها الشعبية الخالصة.(2)
(المادة الأولى):
(1 ) تعريف الاتحاد القومي لليمن:الاتحاد القومي لليمن تجمع يحوي الهيئات الشعبية:سياسية وعمالية ورياضية واجتماعية في كل اليمن .
(2)مقره الرئيسي مدينة عدن،ويجوز نقله لأي مدينة أخرى.
(3 )مهمته العمل على توعية الشعب العربي في كل اليمن من اجل تحقيق الأهداف النضالية الملخصة في الوحدة والحرية والاشتراكية.
المادة الثانية:
(المبادئ الأساسية)
1-الشعب العربي في اليمن جزء من الأمة العربية،واليمن جزء من الوطن العربي.
2- الإيمان بوحدة إقليم اليمن نابع من إيماننا بوحدة الوطن العربي ،ومن واجب الوطنيين أن يكافحوا في سبيل تحقيق وحدة اليمن كجزء من نصيبهم في المعركة القومية.
3- الجمهورية العربية المتحدة هي نواة الحقيقة للوحدة العربية الشاملة من المحيط إلى الخليج،واى إقليم عربي يتحرر من الاستعمار يجب أن يتحد فورا مع الجمهورية العربية المتحدة.
4- يؤمن المجتمعون بان محاربة الاستغلال الإقطاعي والاحتكاري ضرورة لتحقيق حياة اشتراكية نابعة من ظروف وحاجيات الشعب العربي لتتيح الفرصة لملكات الشعب العربي أن تبدع نظاما إنسانيا في هذه المنطقة من العالم،قياما بدور العرب التاريخي وأداء لرسالتهم الخالدة في حماية البشرية من الاضطهاد والاستغلال.
5- يؤمن المجتمعون بان الحياد الايجابي خير سبيل ينتهجه الشعب العربي لصون السلام في أرضه وفي العالم.(2)
المراجع:
1- الأحزاب القومية في اليمن النشأة- التطور- المصائر- قادري احمد حيدر
2- عمال اليمن في المعركة- دار ألهنا للطباعة عدن- عبد الله الأصنج
3- الصراع في عدن- شاكر الجوهري
4- الأحزاب والحركات القومية العربية،الجزء الأول- جمال بارود وفيصل دراج3
 
 
الإحياء نت

نضال البعث في اليمن: لمحات موجزة من تاريخ البعث (الحلقة العاشره)

لمحات موجزة من تاريخ البعث
 
الإحياء نت
الدكتور قاسم سلام 
 
  
الحلقة العاشرة
 إن الحديث عن الحركة الوطنية في اليمن الطبيعية محكوم بتلك اللحظات وآفاقها وأبعادها وبعقلية الزمن المحيط بالقادة والأعضاء والأنصار والأصدقاء والخصوم في آن واحد. فمن حزب الأحرار اليمنيين ورابطة أبناء الجنوب العربي، إلى المؤتمر العمالي ودون الخوض في التفاصيل التي غاص فيها حتى الغرق بعض الذين تصدروا صفحات الكتابة عن مرحلة الأربعينيات والنصف الأول من الخمسينيات متعاملين مع تلك الفترة الزمنية وفقا لاجتهاداتهم وما توفر لديهم من المعلومات داخل إطار تقييمات من سبقوهم من الذين كتبوا وفقا لانطباعاتهم الخاصة وردود أفعال بعضهم ضد خصومهم السياسيين آنذاك، ووفق حسابات فكرية، سياسية، اجتماعية، وأحيانا أخرى مناطقية، طبقية، في إطار البعدين الوطني والقومي أو العالمي بأبعاد روحية ومادية توسعت ساحتها بعد قيام وحدة 1958م بين مصر وسوريا وثورة 14 تموز 1958 في العراق، بالإضافة إلى تغير موازين القوى الوطنية داخل الساحة اليمنية وتصاعد الجدل بين الأحزاب التي تواجدت تدريجيا في الأربعينيات وظهرت إلى حيز الوجود الفعلي والعملي بين 1952-1955م. نعم فمن البدايات الأولى إلى لحظات تفاعل الاتحاد اليمني مع العناصر التي اختلفت مع رابطة أبناء الجنوب العربي بعد اشتراكها في انتخابات المجلس التشريعي 1955م بعدن، تفاعل أدى إلى تأسيس الجبهة الوطنية المتحدة والتفاف الهيئات القروية والمنظمات الشعبية والشبابية حول الجبهة في مقاطعتها للانتخابات التشريعية. وإلى جانب هذه التحركات والتفاعلات الإيجابية برز إلى حيز الوجود قوة عمالية نشطة تكاملت في موقفها المناهض للانتخابات التشريعية, مع كل القوى الرافضة لتلك الانتخابات، مما أدى إلى تصاعد الجدل حول مركزية القضية الوطنية والوحدة الوطنية، جدل منفتح على ساحة الأمة العربية بآفاق إستراتيجية ترى الوطني في القومي، والقومي في الوطني. ولم يقف الجدل عند حدود الفكر بل انتقل إلى صفحة الجدل التنظيمي الوطني والقومي والأممي بشقيه، المادي والروحي، وخاصة بعد انشقاق رابطة أبناء الجنوب العربي، وإعلان قيام الجبهة الوطنية المتحدة وتوالي قيام التحالفات داخل الساحة الجنوبية من الوطن وزيادة ردود الأفعال ضد الماركسيين في عدن بعد تصاعد الصدامات بين الشيوعيين والقوميين في العراق، وموقف الشيوعيين السلبي , بشكل عام من وحدة مصر وسوريا .
المؤتمر العمالي حزب الأحزاب
وبالرغم من كل ذلك فقد كان المؤتمر العمالي بعد تكامل هيئاته وهياكل نقاباته العشرين، أشبه" بخيمة تعايش فيها الجميع "بل أشبه "بحزب الأحزاب"، إذ تواجد فيه ممثلو اليسار واليمين والوسط، الوطني، القومي، الماركسي،والإسلامي، وفي هذا الصدد يقول الأستاذ قادري أحمد حيدر:"وعند العام 1955م بلغ عدد النقابات 12 نقابة بين 54-55-1956م، تصاعدت إضرابات العمال العاصفة، وأثناء هذه الإضرابات جرى تأسيس أكثر من 20 نقابة وفي 3 آذار (مارس) في العام 1956م تم تأسيس مجلس يضطلع بمهام توحيد النقابات العمالية وتأمين تضامنها... وتمكن القادة الشبان للنقابات العمالية والزعماء الذين خرجوا من رابطة أبناء الجنوب العربي، وكانوا يعملون ضمن إطار الجبهة الوطنية المتحدة، تمكنوا من توحيد العمال ومن تنظيم مؤتمر عدن العمالي 1956م. ومنذ البداية أو النشأة وجدت وكانت الحركة العمالية والنقابية في جنوب الوطن ذات طابع وهوية سياسية، ووطنية، وقومية، لا لبس فيها، فقد كان جميع القادة المؤسسين للمؤتمر العمالي ذوي ميول وانتماءات وهويات وطنية وقومية، تحررية، محمد عبده نعمان،(قومي قريب من حزب البعث)، محمد سعيد مسواط (قيادي بعثي ورئيس للمؤتمر العمالي)، علي حسين القاضي (قيادي بعثي ورئيس للمؤتمر العمالي بعد محمد سعيد مسواط)، عبده خليل سليمان (قيادي بعثي)، صالح محسن (....) وعبد الله عبد المجيد السلفي (ماركسي)، عبد العزيز ألفروي (قيادي بعثي)، محسن العيني (رئيس نقابة المعلمين ومن مؤسسي حزب البعث)"... مضيفا " وكانت الحركة العمالية والنقابية بقيادتها ذات الأفق الوطني القومي هي المرشد والمنظم لهذا النضال، وكان حزب البعث العربي الاشتراكي من خلال رموزه العديدة في قيادة المؤتمر العمالي، وفي قلب الحركة النقابية العمالية تنظيما رائدا في ذلك الكفاح السياسي والنضالي والوطني". ويواصل الأستاذ قادري حديثه عن المؤتمر العمالي ونقاباته مبرزا دور صحيفة "العامل" "لسان حال مؤتمر عدن للنقابات" قائلا: "استوعبت جريدة "العامل" في حينه جميع الاتجاهات وعبرت عنها، ذلك لأن بعض النقابيين كانوا يجنحون إلى ما يسمى بالتيار الناصري المقصود عبد الناصر، والبعض إلى تيار حزب البعث العربي الاشتراكي، وآخر إلى رابطة أبناء الجنوب. فحتى العام 1957م أي قبل وحدة مصر وسوريا وفي ظل الوئام الناصري ألبعثي، كتبت الجريدة "الناصرية" بشكل ملهب للعواطف، وكانت تنشر صفحاتها بشكل دائم أن قادة الحركة النقابية في عدن يعتبرون أنفسهم أنصارا وجنودا لعبد الناصر، وفي عام 1958م بدأت جريدة "العامل" تنشر برنامج حزب البعث العربي الاشتراكي"، مواصلا: "وبهذه المناسبة قدمت هيئة تحرير الجريدة هذا البرنامج للقراء بأنهم يؤمنون أن هذا البرنامج يعتبر مدرسة عظيمة للأمة العربية، وأنه يجب أن يقود الملايين من الناس في البلاد العربية، وقد نشر هذا البرنامج أيضا تحت الشعارات البعثية "الوحدة والحرية والاشتراكية" و"أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"".
محاكمة جريدة العامل
لقد كان المؤتمر العمالي عنوانا كبيرا لوحدة الحركة العمالية اليمنية بكل الأبعاد، بل كان ترجمة عملية لوحدة الشعب في علاقته بالأمة العربية بكل ما تعنيه من أبعاد سياسية وفكرية بمضامين إنسانية أيضا.
ولنعد إلى كلام الأستاذ قادري: "وكان حزب البعث حاضرا وبقوة في قيادة الحركة العمالية وفي قيادة صحيفة "العامل" من خلال العديد من رموز قيادة البعث في المؤتمر العمالي وفي إدارة صحيفة "العامل"، محمد سالم علي، عبده خليل سليمان، محمد سعيد مسواط، الشاعر إدريس حنبلة، وفي 31 أكتوبر قدم رئيس تحرير "العامل" عبده خليل سليمان ومحمد سالم علي للمحاكمة بتهمة إهانة القضاء، وأوقفت الصحيفة لمدة أسبوعين، وخلال هذه الفترة حتى 1959م دخلت جريدة "العامل" في مواجهة سياسية مع الصحف المرتبطة بالاستعمار". وبالرغم من تولي عبد الله الأصنج رئاسة تحرير جريدة "العامل"، فقد ظل الأستاذ محمد سالم علي فاعلا ومؤثرا في صحيفة العامل، إذ يقول الأستاذ قادري: "تغير اتجاه الصحيفة مع إعطاء صفحة كاملة منها للقيادي ألبعثي محمد سالم علي وهي الصفحة السياسية الوحيدة الحية والمثيرة". نعم وبالرغم من تولي عبد الله الأصنج رئاسة المؤتمر الشعبي ورئيس تحرير جريدة "العامل"، إلا انه لم يتمكن من تغيير الخط العام والتوجه المركزي للحركة العمالية وإن توسعت علاقاتها عربيا ودوليا، فقد ظلت على خطها الوطني والقومي الثوري، وفي هذا السياق يشير قادري أيضا: "ومع ذلك بقي الاتجاه القومي العربي، والوطني التحرري اليمني، هو السائد على الحركة العمالية والنقابية، طيلة سنوات 56- 1962م بفعل دور وحضور القيادات البعثية والوطنية في قيادة المؤتمر العمالي وفي قيادة الحركة العمالية عموما، مع محاولات الأصنج الدؤوبة للفصل بين العمل النقابي، والسياسي الوطني وتغليبه البعد ألمطلبي الإجرائي الجزئي "التريديونيني" على العمل السياسي الوطني الديمقراطي وخاصة في سنوات الستينات".
القوميون يواجهون الماركسيين
وتأتي مرحلة المواجهات الدامية بين القوميين والشيوعيين في العراق 1958م وتختلط الأوراق وتشتد حمى الصراعات والمهاترات بعد تصاعد مواقف الماركسيين العرب ضد وحدة مصر وسوريا وجدل الصراع بين القوميين والشيوعيين في العراق بشكل خاص حول انضمام العراق إلى الجمهورية العربية، تأتي المواجهات إذ كثف القوميون جميعا داخل الساحة اليمنية نشاطاتهم في مواجهة الماركسيين اليمنيين ودعوا إلى تشكيل "جبهة قومية" داخل الساحة مستبعدين مشاركة الشيوعيين في الجبهة المعنية، وهنا يقول الأستاذ قادري: "وفي 14 أبريل 1959م نشرت "العامل" مقالها الافتتاحي تحت عنوان (البعث منقذنا من الشيوعية).... تقول فيه: نحن نناضل ضد أي سيطرة أجنبية، سواء كانت شرقية أو غربية، مادية كانت أو روحية، واليوم نناضل ضد السيطرة الأيديولوجية السياسية المادية الجديدة التي تريد تحقيق الشوعية في الوطن العربي، والبعث فقط هو منقذنا الوحيد، والذي يستطيع أن يوقف الخطر الشيوعي".
حقا لقد كان المؤتمر العمالي ساحة للجميع ولكنه كان الأكثر تماسكا وتفاعلا مع موقف البعث ورموزه الفاعلة والمؤثرة على مسيرة المؤتمر ونقاباته العمالية وخطه الوطني والقومي. ومن البديهي أن البعث كان متوازنا في علاقاته مع الجميع ومعتدلا في طروحاته المبدئية مهما كانت الظروف والتحديات، بل يؤكد الكثير من الباحثين وكتاب تلك المرحلة أنه كان موحدا فكرا وتنظيما وذلك ما أكسبه قوة الفعل والحركة في مواجهة كافة التحديات في أوساط النقابات المختلفة، وفي داخل المواقع القيادية المتقدمة التي شاركوا فيها قيادة النقابات المختلفة، وقد أوضح ذلك الأستاذ قادري أيضا بدقة عندما قال:"ويمكننا اعتبار الفترة 56-1961م هي فترة ازدهار وحدة البعث بالحركة العمالية النقابية، هي فترة التوافق الإيديولوجي والسياسي القومي والمركزي بين البعث، والناصرية، وبين سوريا ومصر، وهي فعليا فترة ازدهار نشاط الحركة العمالية والنقابية في عدن.... (فقد ركز البعثيون في الجنوب اهتمامهم على الحركة العمالية، وعملوا ضمن المؤتمر العمالي ومن خلال "البعث" معارك سياسية ضد خصومهم السياسيين في المنظمات السياسية الأخرى، وفي عام 1962م أصبح البعث تيارا بارزا في عدن، غير أنه عجز عن الامتداد إلى الريف (....) وعارض البعث بشدة اتحاد الجنوب العربي".
وإذا كان البعث لم يحقق امتدادا مؤثرا في الأرياف آنذاك كما كان في المدن فهذه ظاهرة لم تقتصر عليه فقط، فالبعث كغيره من الأحزاب العقائدية التي تنمو في المدن بحكم التخلف الفكري والسياسي في معظم ريفنا اليمني، ومن هذا المنطلق لا نستطيع أن نعطي حكما مطلقا على البعث ونحمله عملية القصور والتراجع داخل خط المؤتمر العمالي لأنه لم ينتشر في الريف بشكل موازي لامتداداته في مدينة عدن وحده، ثم في مدينة تعز وصنعاء، بينما تنامي في حضرموت الساحل والوادي، أي المكلا وسيئون وتريم، فلكل ظرف أحكامه وظروفه المؤثرة على مسيرة أية حركة فكرية وسياسية وخطها الوطني والقومي. وإذا كان البعث قد لعب دورا متميزا في مدينة عدن وحضرموت وأثر بشكل جاد وفاعل على مسيرة الحركة النقابية وتأسيس حزب الشعب الاشتراكي، كواجهة سياسية للمؤتمر العمالي، تفاعلا مع الطروحات التي كانت سائدة آنذاك والقائلة بأهمية الفصل بين الحركة العمالية ونشاطها النقابي والمطلبي وبين الخط السياسي المتصدي للطروحات والمواقف السياسية التي كان البعث في المؤتمر العمالي يريد أن يرسخها كمنهج ومطلب سياسي يسعى في الوصول إلى التحرير الكامل والناجز للجنوب اليمني بمختلف الوسائل والسبل التي تحفظ حقوق الشعب في علاقتها الجدلية مع حقوق الأمة في التحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية.
البعث والكفاح المسلح
ومما لا شك فيه أن البعث قد تكبد خسائر كبيرة بسبب تأخر قيادته في تلك المرحلة عن إعلان برنامجه النضالي ضد الوجود البريطاني وخوض عملية الكفاح المسلح، متفاعلا ومتكاملا مع حركة النضال داخل الجنوب اليمني، وظل إلى حد كبير محكوم بخط حزب الشعب الذي رفض الكفاح المسلح وظل يدور في فراغ المفاوضات السياسية سبيلا للاستقلال والتحرر من الوجود الاستعماري.
من هذا المنطلق نستطيع القول أن ما طرحه الأستاذ نائف حواتمه حول موقف البعث آنذاك من عملية الكفاح المسلح أو "عملية التفاوض" لم يكن دقيقا ولا منصفا كما لم يكن وديا ما طرحه، إذ ارتبط هذا الموقف بموقف بعض القياديين في منظمة البعث الذين كانوا أيضا في قيادة حزب الشعب الاشتراكي وملتزمين بخطه السياسي وإن كانوا يبررون موقفهم من خلال طروحات سياسية لها علاقة ببعض الرموز بحزب الشعب الاشتراكي وبالمماحكات السياسية داخل ساحة عدن، وليس لها علاقة بهيكلية البعث وجماهيره التي ارتبطت بالفكر والتنظيم الثوري التحرري وتربت بين صفوفه تربية فكرية ونضالية منضبطة، ومهما كال الآخرون من التهم فإنه لا يصح إلا الصحيح، فتقييم الأستاذ نائف حواتمه أو الدكتور محمد الشهاري لدور البعث كان ينطلق من موقف سابق للمتغيرات في جنوب اليمن وهو بدون شك حكم خارج عن موضوعية التحليل لدور البعث ومكانته السياسية في اليمن، حقا لم يكن الأخ الدكتور محمد الشهاري هو الآخر دقيقا ومنصفا لدور البعث بقدر ما كان ذلك الموقف منه نزقاً ماركسياً يعيش في خياله الماركسي بعيدا كل البعد عن استيعاب للواقع، ولهذا نجد أن الأستاذ قادري قد تناول الموضوع بشفافية وسلاسة معبرة عن عقل منظم في منهجه وتحليله، مؤكدا أن الدكتور الشهاري تعامل مع البعث وموقفه من مرتكز حكم مسبق، إذ يقول:"وهو كذلك حكم ايديولوجي، صادر عن عقل سياسي يقرأ الواقع الموضوعي بروحية لا تاريخية، تلتقي بالنتيجة مع منطق تفكير حواتمه، في قراءة الواقع، والسياسة والتاريخ".
وهنا نعود لنقف أمام موقف الأخ الأستاذ علي أحمد ألسلامي إذ يقول:"كان البعثيون كل تركيزهم على عدن والعمل من خلال المؤتمر العمالي، وهمهم تركيزهم في التغلغل في الحركة العمالية، واستطاعوا في ذلك، وتعاون محمد عبده نعمان "العمالي" (.....) وعمل بنشاط في صفوف اليمنيين من أبناء الشطر الشمالي من الوطن". ويستدرك الأستاذ قادري قائلا:"فمن الصعب في تقديرنا أن نقرأ الحركة العمالية والنقابية بعيدا عن الدور السياسي النشط والفاعل لحزب البعث العربي الاشتراكي على أخطاء وسلبيات التجربة التي من المهم أن نقرأها في سياقها الموضوعي والتاريخي".
كيف نقرأ التجربة
فليس من العدل والمنطق أن نقرأ التجربة خارج زمانها ومكانها وأن نعتبر نمو الحركة أية حركة في المدن معزولة عن الريف، فمن هم أبناء المدن؟، وهل يمكن تجاوز علاقة معظم قيادي الحركة العمالية في الريف وإعطاء حكما خارج التاريخ واجتثاث صلتهم أو معظمهم بالريف بمجرد أنهم احتلوا مواقع متقدمة في هيكلية المنظمة السياسية أو النقابية في المدن بشكل عام وعدن بشكل خاص!، فنحن ريفيون في المدن وفي قيادة العمل السياسي بامتداداته.
ويكفي كما يقول الأستاذ قادري "يكفي هنا القول أن القيادات التي تتالت على قيادة رئاسة المؤتمر العمالي طيلة سنوات التأسيس 1956م وحتى 1965م كانت قيادات سياسية وطنية ديمقراطية محسوبة على حزب البعث العربي الاشتراكي، وجميعها قيادات وطنية ديمقراطية".
غاندي
ونختم هذه الحلقة بكلمة للمهاتما غاندي إذ يقول:"ويوما بعد يوم يتعاظم إيماني بالله وحده هو حقيقي , وكل ما سواه غير حقيقي، فليدرك أولئك الذين يرغبون في ذلك كيف نما هذا الإيمان في نفسي، فليشاركوني تجاربي وليشاركوني إيماني إذا استطاعوا. وكذلك تعاظم إيماني بأن كل ما هو ممكن بالنسبة إليً ممكن حتى بالنسبة إلى طفل، وإن عندي أسبابا وجيهة تدعوني إلى هذا القول، فأدوات البحث عن الحقيقة بسيطة بقدر ما هي عسيرة. وقد تكون متعذرة كل التعذر على الشخص المتغطرس، وممكنة كل الإمكان للطفل البريء. وأن متلمس الحقيقة يجب أن يكون أكثر اتساعا من التراب. إن العالم يسحق التراب تحت قدميه، ولكن الباحث عن الحقيقة يجب أن يذل نفسه بحيث يكون بمقدور التراب نفسه أن يسحقه. وعندئذ، وعندئذ فحسب، يكتب له أن يلمح الحقيقة أي أن يرى الله. " تأييدا كبيرا".مضيفا بتواضع الحكماء ...."وأنا أرجو وأضرع إلى الله أن لا يعتبر أحد النصائح المبعثرة في الفصول التالية شيئا جازما. إن التجارب المروية ينبغي أن ينظر إليها كأمثلة وشواهد يستطيع كل امرئ أن يتابع على ضوئها تجاربه الخاصة وفقا لميله وطاقته. وأنا أعتقد أن الشواهد سوف تكون إلى هذا المدى المحدود مسعفة حقا".
المراجع:
1- الفكر والموقف الأعمال الكاملة- محمد احمد نعمان
2- حزب الطليعة الشعبية
3- الصراع في عدن- شاكر الجوهري
4- الأحزاب القومية في اليمن النشأة- التطور- المصائر- قادري احمد حيدر
5- حركة القوميين العرب-جمال باروت
6- عمال اليمن في المعركة
7- قصة تجاربي مع الحقيقة- مهاتما غاندي
 
 
الإحياء نت